ل لعلاقة البيزنس بين أحد أبنائك وقطر يدٌ فى عدم الهجوم على النظام العائلى هناك؟
لماذا قبلت شهادة تكريم من سفير بشار الأسد فى بيروت ونظامه قاتل؟
هل فاتحت حسن نصر الله فى
أسباب هجومه على مصر وجيشها وشعبها خاصة أن هناك قضية جنائية متهماً فيها
أعضاء من حزب الله هربوا من السجون وفتحوها؟
لماذا قلت إن السيسى حائر دون أن تحدد الظروف الموضوعية التى يجب أن تتوافر قبل أن يقبل بالترشح للرئاسة؟
منذ أن برق نجم محمد حسنين هيكل ونحن نشعر بأنه مسافر دائم فى أيامنا..
وضمائرنا.. ولغتنا.. وهزائمنا قبل انتصاراتنا.. أحزاننا القومية قبل
أفراحنا الشخصية.
والمؤكد أنه مثل غيره من الكتاب كثيرا ما وقع فى تناقضات.. وحاسب نفسه من
باب المراجعات.. فهو من لحم ودم.. وليس «قالب عجين».. ليس موتورا خاليا من
المشاعر.
عندما اقتربت منه وجدت نفسى مشدوداً إليه.. معجبا به.. مدافعا عنه.. فقد
نجح فى البقاء على القمة أكثر من ستين سنة.. واستهلك خلال عمره المهنى
الطويل ملكا (فاروق) وسبعة رؤساء (نجيب وعبدالناصر والسادات ومبارك وطنطاوى
ومرسى ومنصور) بخلاف الرئيس القادم.. ذهبوا جميعا.. وبقى هو.. بل أكثر من
ذلك تطور من محرر حوادث يفتش عن أسباب الضعف الإنسانى الذى ينتهى بجريمة
إلى مفكر سياسى يفسر مظاهر ضعف النظم التى تنتهى بحرب.. وفى كل الأحوال
ينتظر الناس أحاديثه الصحفية والتليفزيونية بعد أن كف عن كتابة مقالاته..
وأعلن انصرافه عنها.
عبرت عن انبهار به فى الكتاب الذى وضعته عنه ونشر تحت عنوان «هيكل الحياة
الحرب والحب» .. وهو الكتاب الثانى بعد كتاب «لعبة السلطة فى مصر» الذى
تضمن حوارات معه نشرتها فى «روزاليوسف» قبل أكثر من عشرين سنة.
بدأت تلك الحوارات فى تسعينيات القرن الماضى بعد أن منعه مبارك من الحديث
لرواد معرض الكتاب.. فوجدنا أن من العار ألا يجد كاتبا فى حجمه وشهرته
وثقله منفذا يعبر فيه عن نفسه داخل حدود وطنه دون أن يضطر للهجرة بآرائه
وكلماته إلى بيروت أو غيرها من العواصم التى كانت وقتها- حسب تعبيره- حانية
عليه أكثر من القاهرة.
وقدم هيكل الكتاب بنفسه متحدثا عن أهمية السؤال فى الحياة.. مضيفا: «إن
الميزة الأساسية فى الشخصية المهنية للصديق عادل حمودة أنه رجل يحمل
«سؤاله» معه أينما ذهب».. والواقع أنه إذا كان «السؤال» هو جوهر الفلسفة،
فهو أيضا صميم مهنة الصحافة فى آخر طبعاتها، فالصحافة خصوصا فى الغرب
-أوروبا وأمريكا- تتجه فى معظمها الآن إلى ما يسمونه مدرسة «الصحافة
السائلة» وهى مدرسة تؤمن بأن «الصحافة سؤال».
بهذه الشهادة الممهورة بتوقيعه.. أتساءل اليوم عما يقول.. وما يفعل؟ فقد منحنى بنفسه هذا الحق؟ وإن كنت لن أسىء استعماله.
وما يدعم هذه الشهادة أن هيكل فى المقدمة نفسها يقول: «إن المجتمعات تظل
بخير طالما هى متمسكة بـ «السؤال».. تسأل عالمها وزمانها وتسأل واقعها
وتسأل نفسها وغيرها ثم لا تفتر همتها أو يثنى عزمها عن التفكير فى أسئلة
جديدة بلا حدود أو قيود غير الحرص على أن تبقى هذه الأسئلة موصولة بالحياة
وغير معزولة عنها».. وبهذه الإضافة أشعر بمزيد من الاطمئنان بأنه سيتقبل كل
ما أطرح عليه من أسئلة دون غضب أو سوء ظن.. فلا أتصور أنه يلزم قلمه بما
لا يلزم به نفسه.
والمؤكد أن الكتاب بأحاديثه الجريئة أثار غضب مبارك.. خاصة الحديث الذى
تكلم فيه هيكل عن محاولة اغتيال الرئيس فى أديس أبابا.. فقد وجدها فرصة
لتشريح ضعف مؤسسات الدولة خاصة مؤسسة الرئاسة.. كما سخر من أسلوب صفوت
الشريف وزير الإعلام وقتها فى ذبح العجول على باب ماسبيرو.. وحذر من غزو
السودان انتقاما من دعمها لمنفذى العملية.. ونقلت صحف ووكالات أنباء دولية
ما قال مشيدة ومعجبة.. وفى الوقت نفسه بدأت مطبوعات النظام المحلية تسب
وتلعن.. تتهم وتهاجم.
واستدعى مبارك رئيس تحرير الأهرام إبراهيم نافع ليرد على ما قال هيكل..
لكنه فى الوقت نفسه طلب من أجهزته الأمنية تحريات عما وصفه بـ «تنظيم هيكل
فى الصحافة المصرية».. وصدقت التقارير الخفية على اتهامه.. ووصفتنى بـ
«رئيس أركان التنظيم».. ولكن.. المستشار السياسى للرئيس الدكتور أسامة
الباز الذى كشف لى الأمر برمته فيما بعد قال لمبارك: «إن هيكل هو شيخ مهنة
الصحافة وكل من فيها يلجأ إليه بهذه الصفة».. وأضاف: «ليس فى الأمر مؤامرة
ولا تنظيم، وإنما سلوك طبيعى من الصحفيين تجاه كبيرهم الذى يلجئون إليه
طلبا للخبرة والمشورة».
فى ذلك الوقت تراجع إبراهيم نافع ترضية لمبارك عن نشر الطبعة العربية من
كتاب هيكل «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل».. وأعاد هيكل العربون
الذى قبضه (نحو ربع مليون جنيه) بشيك ألحقه بخطاب رفض فيه قبول المبلغ
تعويضاً عن تأخير نشر الكتاب.. وهنا بدأت علاقة هيكل بإبراهيم المعلم «دار
الشروق» الذى سارع بنشر الكتاب فى ثلاثة أجزاء.
وعلى صدر الجزء الأول صاغ هيكل إهداء لى لخص فيه ما عانينا منه معا فى تلك
الأيام: «إلى عادل حمودة زميلا وصديقا ورفيق مشاكل مازالت تجرجر أذيالها»..
فلو كان هو قد منع من نشر كتابه فى مؤسسة الأهرام فأنا قد نزعت من بيتى
ومكانى ومنصبى وتجربتى الصحفية فى «روزاليوسف».. وقد اعترف بذلك قائلا بأن
علاقتى به كانت سببا قويا بجانب أسباب أخرى فى إخراجى من «روزاليوسف»
وتجميدى فى الأهرام تحت مراقبة تحريرية صارمة.. حرمتنى من التعبير عن رأيى
تماما فى مقالى الأسبوعى «صباح السبت».
أكثر من عشرين سنة وأنا أرى فى كثير مما يقول هيكل حيوية متفجرة.. لا ترهل
فى التفكير.. ولا تراجع فى المواجهة.. فكلماته تولد من جديد كلما قرأناها..
وتتوهج مثل خاتم سليمان كلما فركناها.
لكن.. «ليس كل ما يبرق ذهبا».. هكذا سمعت كثيرا من مختلفين معه.. ومعترضين
عليه.. بعضهم ينتمى إلى زمن عبدالناصر.. والبعض الآخر يترنح بين إيمانه
بالسادات وانتمائه إلى مبارك.. كنت أرى أن هجومهم عليه نوع من تصفية
الحسابات السياسية القديمة.. لا شأن لنا بها.. ولم أكن أتردد فى أن أدافع
عنه دون أن أنقل إليه ما أقول.. وكان ردهم: «أنت شاهد ما شافش حاجة»..
وكانوا يستطردون: «أنت لم تكن طرفا فيما كان وما جرى».. وغالبا ما كانوا
ينهون تعليقاتهم بجملة ثقيلة.. تشعرنى بالسذاجة قبل الحيرة: «الأيام بيننا
والزمن القادم كفيل بإثبات وجهة نظرنا فيما نرى وما نقول».. «حاول أن تختلف
معه اختلافا موضوعيا وسوف ترى كيف يمسح كل ما بينكم من صداقة بأستيكة
حادة».
والحقيقة.. لم تكن تقديراتهم صائبة.. فقد اختلفت معه دون أن ينقلب علىّ..
كان قد تحدث إلى صحيفة الشروق كاشفا معلومات ما عن زيارة الرئيس الأمريكى
باراك أوباما إلى القاهرة متحدثا للعالم من منبر جامعتها العريقة.. وكانت
معلوماتى التى سمعتها من مصادرها المصرية والأمريكية المباشرة تتناقض مع ما
نشر هيكل من حكايات جنحت أحيانا بعيدا عن الحقيقية.. وكتبت ما عندى فى
«الفجر».. وحاول صحفيو مبارك الصيد فى الماء العكر.. ساعين للوقيعة بينى
وبينه.. لكن.. ذلك لم يحدث.. فقد التقيت هيكل فى قريته السياحية (الرواد)
المطلة على الساحل الشمالى.. وتحدثنا طويلا.. وتعاتبنا قليلا.. وانتهى
الأمر.. واستمرت المياه تتدفق فى مجاريها دون خدش واحد أصاب ما بيننا.
وجرت محاولة أخرى للوقيعة بيننا عندما راح زملائى فى تجربة «روز اليوسف»
مثل إبراهيم عيسى وعمرو خفاجى ووائل الإبراشى يتحدثون عنى بحب وحماس فى
احتفال جرى فى «نادى العاصمة».. بمناسبة بلوغى الستين.. ولوحظ أن هيكل لم
يقل كلمة واحدة.. ولو من قبيل المجاملة المعتادة فى مثل هذه المناسبات..
ولم تفلح محاولات الدكتور مصطفى الفقى الذى كان يجلس بجواره فى إقناعه..
وبرر هيكل ذلك بأنه يشعر بالإنهاك من المشوار الطويل الذى قطعه من بيته
الريفى فى برقاش إلى وسط القاهرة.. وكان تفسير البعض ممن جلس إلى نفس
مائدته: «إن هيكل لم يكن فى مركز الاهتمام كما تعود».. لكننى.. لم أقبل بما
سمعت وقرأت.. فهيكل يمتلك من رصيد الضوء ما يجعله مترفعا عن مثل هذه
المشاعر السلبية.
وبهذا الرصيد الذى لا ينفد سيقبل بالاختلاف معه.. فيما سيأتى.. دون أن
يعتبر ذلك موقفا سيئا تجاهه.. فهو أكبر من أن يغلب المشاعر على الحقائق.
بعد ثورة يناير.. توقفت طويلا عند إبراهيم المعلم.. فهو شريك أحمد هيكل..
وفى الوقت نفسه كان الناشر المفضل لسوزان مبارك.. فى علاقة لم أستوعب
تشابكها وتناقضها.. هيكل يعارض مبارك.. وابنه شريك الناشر المفضل لسوزان
مبارك.. لكننى.. لم أشغل نفسى بحل اللغز.. فكل شخص فى تلك العلاقة له إرادة
مستقلة.. مهما كانت صلاته العائلية.. أو وصلاته السياسية.. كما أن للبيزنس
أحكامه التى تتجاوز كل الاعتبارات والتفسيرات الأخرى.
إن المعلم شخصية محورية فى حياة هيكل.. فهو ناشر كتبه.. وشريك ابنه..
والواجهة التى يعمل من خلفها.. فقد أسس المعلم شركة وقعت نيابة عن هيكل مع
قناة الجزيرة ليتحدث هيكل على شاشتها تحت عنوان «تجربة حياة».. بجانب
أحاديث مباشرة يجريها فى أوقات مختلفة تفرضها سخونة الأحداث.
وقع المعلم مع «الجزيرة» ووقع هيكل مع المعلم وتسلم منه الأموال المحولة من
قطر بطريقة غير مباشرة.. ليحمى نفسه من تهمة القبض يداً بيد من العائلة
القطرية مالكة القناة.. منتهى الذكاء.. ومنتهى الذكاء أيضا أنه توقف عن بث
أحاديثه فى «الجزيرة» فور أن تقاطعت المصالح وتفجرت المتاعب بين القاهرة
والدوحة.
لقد قربت العائلة المالكة القطرية هيكل منها بعقد «الجزيرة» الذى يحسب
بملايين من الدولارات.. كما فتحت الباب أمامه ليدخل عالم التليفزيون نجما
متحدثا يشد الانتباه.. مسجلا مشواره بالصوت والصورة بوسيلة تضمن له الخلود.
وحسب ما سمعت منه، فإن أمير قطر السابق حمد بن خليفة همس له ذات مرة بأنه
قام بتمويل ثورة يناير بالمال دعما للديمقراطية.. ولم يسأله هيكل عن مفهومه
للديمقراطية.. لكنه.. نفى له أن يكون ذلك قد حدث.. قائلا: إن المال ذهب فى
الغالب إلى السماسرة والوسطاء.. فالشباب الذى فجر الثورة برىء فى غالبيته
من تهمة التمويل الخارجى.
لكن.. تلك القصة تؤكد بشهادة هيكل أن قطر تلُقى أموالا فى مصر.. إما
لمساندة الإخوان وإما لتخريب البلاد.. فى حالة غير مسبوقة.. لم يشأ هيكل أن
يتورط فى تفسيرها رغم أنها ضاغطة وملحة وتحتاج رأيه.
وما لا يعرفه هيكل أن شخصية خليجية مؤثرة أبلغت مبارك يوم 4 فبراير عام
2011 أن حقائب قطرية متخمة بمليار دولار ستدخل مصر متسللة عبر مطاراتها..
وراح وزير الداخلية فى ذلك الوقت اللواء محمود وجدى يراقب ويتابع ويتربص..
لكنه.. لم يستطع أن يمنع الأموال التى ذهب أغلبها إلى جماعة الإخوان من
التسلل عبر مطار برج العرب.. حسب تقديره.
ولو كان هيكل قد توقف عن أحاديث «الجزيرة» فإنه لم يقطع صلته بالعائلة
الحاكمة القطرية التى وصفها فى حديث تليفزيونى مؤخرا بأنهم اصدقاؤه.. وإن
انتقدهم.. ومست الجملة أحزان وأوجاع الكثير ممن سمعها.. وتعجب منها.. فكيف
يظل «الأستاذ» صديقا لدولة تتآمر على بلاده.. وتهددها وتهاجمها وتحرض عليها
ليل نهار.. وتمول الإرهاب فيها.. وتأوى رموزه على أرضها؟ وهل يكفى أن يبرر
ذلك التواصل المثير للدهشة بأنه «ينتقدها»؟ هل يقبل من رجل يضعه المصريون
فى خانة الخبرة والوطنية مثل هذا التصرف؟
وهناك من يتصور أن مصالح هيكل مع قطر تتجاوز الجزيرة إلى بيزنس أحد أبنائه
معها.. فقد كان أحمد هيكل عبر شركته «القلعة» ممن شاركوا فى مناقصة تصدير
الغاز القطرى إلى مصر، وبدا أن أحمد هيكل على وشك الفوز بها.. ولكن وزير
البترول وقتها أسامة كمال قرر إعادة المناقصة فأقاله الحكم الإخوانى ليأتى
وزير بترول من جماعتهم منحازا إلى أحمد هيكل.. متحمسا لعلاقته بقطر.. وقرب
أحمد هيكل رئيس الشركة القابضة للغاز منه محمد شعيب ليدير الصفقة.. وعندما
اعترض وزير البترول قدم شعيب استقالته وانضم إلى شركة القلعة.. وفى تشكيل
حكومة الببلاوى جرت ضغوط خفية ليكون وزيرا للبترول.. وفى اللحظات الأخيرة
استبعد.. ليحظى بالمنصب رجل يستحقه هو شريف إسماعيل.
وعلى خلاف ما يقول هيكل انتقادا لعلاقة البيزنس بالسياسة، وجدنا تعاونا فى
البيزنس بين أبنائه وأبناء مبارك بعيدا عن الخلافات السياسية الحادة بين
الآباء.. وكأن ما يقال من كلمات براقة لا يمت بصلة للصفقات المغرية.
لكننى.. أتسامح فى ذلك.. من باب أن الآباء لا يجوز محاسبتهم على تصرفات
الأبناء.. وإن كنت لا أقبل شخصيا أن تتناقض مصالح عائلتى مع ما أومن به من
أفكار وما أمشى فيه من طريق.
على أن ما أثار قلقى على هيكل ذهابه إلى مرسى ليقضى معه ساعات فى قصر
الاتحادية.. لقد سبقت هذه الزيارة مكالمة تليفونية استمرت نحو الساعة
بينهما قبل أن يسافر مرسى إلى طهران ليلقى كلمة مصر فى مؤتمر عدم
الانحياز.. وحسب ما سمعت من هيكل فإنه أخذ يشرح لمرسى أهمية إيران وكيفية
التعامل معها.. لكنه.. على حد قوله ايضا «وجده شخصا مسطحا لا يتسم تفكيره
بالعمق».. ودلل على كلامه بأن رسم بكف يده خطا مستقيما بالعرض.. تعبيرا عن
السطحية.. ثم رسم بالكف نفسه خطا متقاطعا بالطول.. تعبيرا عن عدم العمق.
لكن.. لنسأل والمجتمعات بخير طالما تسأل: لو كان مرسى مسطحاً.. تافهاً.. لا
يستوعب شيئا مما يسمع.. فلماذا ذهب إليه؟ ما الذى خرج به بعد أن تكلم معه
واستمع إليه؟ هل وافق على هذه المقابلة حتى يضيف فى سجل الشخصيات التى
عرفها رئيسا إضافيا؟ هل ينقص سجله بعد عبدالناصر والسادات وديجول وخروتشوف
وغيرهم رئيس مثل مرسى؟ هل يشرفه ضمه إلى السجل؟
ولا أزايد على أحد لو قلت إننى رفضت لقاء مرسى ثلاث مرات.. منها مرة كانت
الدعوة فيها مباشرة من أحد رجاله المقربين والمؤثرين.. لكننى لم أتردد فى
التعبير عن رأيى فى الرئيس الإخوانى قائلا: «إننى أشعر بالعار لوجوده فى
الرئاسة».. ونقلت الجملة إليه.. فطلب من مدير المخابرات العامة السابق
اللواء رأفت شحاتة اعتقالى حسب ما سمعت من الرجل مباشرة.. وقبل ذلك طلب
المسئول القوى فى ديوانه أسعد شيخة من الأجهزة الأمنية البحث عن فضيحة
تخرسنى وتغلق «الفجر» التى هاجمته وسخرت بشدة منه منذ يومه الأول فى الحكم.
والمؤكد أن مرسى لم يستوعب نصائح هيكل.. فلم تمر عدة أيام على الزيارة حتى
حفر مرسى قبره بيده وأعلن إعلانه الدستورى الديكتاتورى الذى منحه سلطة
مطلقة دون اعتراض.. ومهَّد لأحداث الاتحادية الدامية.. الأحداث التى كشفت
فيها الجماعة فى ساعات قليلة ما ادخرته من عنف سنوات طويلة.
وأتصور أن هيكل من القلائل الذين لم يفاجئوا بذلك العنف.. فقد عاش مؤامرة
التنظيم فى عام 1965 لحظة بلحظة.. وكانت المؤامرة تستهدف قتل عبدالناصر..
وتفجير القناطر والسدود.. وتخريب المنشآت العامة.. فى سيناريو شاهدناه فيما
بعد.. عقب 30 يونيو.. إما «أن يحكمونا أو يقتلونا».. «إما نهب مصر أو
حرقها».
ولابد أن هيكل الذى يتمتع بذاكرة قوية تستدعى بسهولة الأحداث والشخصيات لم
ينس أن قائد تنظيم 1965 كان سيد قطب.. مؤسس تيار التكفير والتدمير.. فى
الجماعة.. وأن من يسيطر عليها الآن هم من أنصاره.. من المؤمنين بأفكاره..
من المتدربين على تنفيذ مؤامراته.. فما الذى تصوره هيكل صاحب الخبرات
الاستراتيجية الهائلة فى التحليل السياسى وهو يلتقى تلك القيادات القطبية
الإرهابية؟ هل تصور أن فوج الذئاب سيصبح سربا من عصافير الكناريا؟ أو أن
القنبلة ستتحول بقدرة قادر إلى قرنفلة؟
والأخطر أن هيكل تناسى بمزاجه جملة مرسى الشهيرة «الستينيات وما أدراك ما
الستينيات».. ألم يكن هيكل رمزا للستينيات؟ ألم يكن هو نفسه مقصوداً بتلك
الجملة العدائية لمرحلة تاريخية شارك هيكل فيها ويعتبرها ونحن معه ذروة
الكرامة الوطنية.. والتنمية الحقيقية.. والعدالة الاجتماعية؟ هل نسى هيكل
أنه كان على رأس القائمة السوداء للجماعة لسنوات طوال؟ إن الذاكرة القوية
أحيانا تكون ذاكرة اختيارية.. مزاجية.
ألم تكن القاهرة فى الستينيات العاصمة الثالثة للعالم لدورها فى التحرر
الوطنى وعدم الانحياز بعد واشنطن وموسكو حسب شهادة هيكل نفسه؟ ما الذى جعله
يتجاوز عن تلك الإهانة الموجهة إليه مباشرة ويذهب ويلتقى من قذفوها فى
وجوهنا؟
بل أكثر من ذلك فتح لهم بيوته.. يستقبلهم قبل الانتخابات وبعدها.. قبل أن
يصلوا إلى السلطة وبعد أن غربت عنهم.. وربما تناول معهم الطعام.. ليكون
بينه وبينهم «عيش وملح».. متصورا أنهم مصريون يحرصون على «العيش والملح»..
ويبكون عليه.. ألم ينتبه إلى ما فعلوا بكل من وقف إلى جوارهم؟ ألم يلتفت
إلى خياناتهم المتكررة لكل من ساندهم؟ هل اعتقد أنه مختلف.. سيضعونه فى
مكانة مميزة دون أن يمس هو وعائلته بسوء؟ هل هى جاذبية السلطة ولو كانت
ملتحية أو متشددة أو متشنجة؟
لقد وقف عدد من السياسيين والإعلاميين والحقوقيين إلى جوار الجماعة فى
الانتخابات الرئاسية بعد أن تعهد قادتها بمبدأ «المشاركة لا المغالبة»..
التفاهم لا التعارض.. لكن.. ما إن وصل مرسى إلى «الاتحادية» حتى تبخرت
الوعود.. واحترقت التعهدات.. وسكب الإخوان القهوة على ثياب الحلفاء.. فى
حالة غدر لم يشأ أن يستوعبها الضحايا.. فانسحب بعضهم بعيدا بعد أن شعر بأنه
غرر به إلى حد الاغتصاب.. وسعى البعض الآخر إلى تضميد جراحه بمزيد من
الهجوم على الجماعة.. لكن.. لا أحد هنا أو هناك استرد ثقة المصريين فيه..
ولست أسخر عندما أقول: «إن شرف السياسى أو الإعلامى مثل عود الكبريت لا
يشتعل إلا مرة واحدة».. ولا أصدق أن المصريين يتعاملون معهم بنفس الثقة
السابقة.. ومواقع شبكات التواصل الاجتماعى تشهد على ذلك.
وعلى سبيل المثال لا الحصر.. ترى.. هل يسهل على المصريين الثقة من جديد فى
إبراهيم المعلم وقد انتقل من دعم مبارك إلى مساندة الثورة عليه.. ومن تأييد
الإخوان إلى التمسح فى الثورة التى أطاحت بهم؟
لماذا لا ينسحب الرجال عندما يسقط المسرح فوق رءوسهم؟ لماذا لا يعودون إلى
غرف نومهم قبل أن يسمعوا لعنات الناس الحادة؟ إن لا أحد يستطيع أن يستأجر
بيتا فى كل الأزمنة والعصور.. ومهما كانت الصبغات والمساحيق فإن الزمن كفيل
بإبراز تجاعيد النفس قبل كرمشة الوجه.
وعلى سبيل المثال أيضا.. حسن راتب الذى أضاف إلى اسمه الأول كلمة البنا بعد
وصول الجماعة إلى الحكم.. هل يثق فيه أحد؟ لقد حفيت قدماه ليبث على قنواته
جلسات مؤتمر الحزب الوطنى.. وأخرج من جيبه ملايين الجنيهات دعما لمرسى
وتنظيمه.. وعادت كاميراته ترصد المؤتمرات السياسية التى تدعو إلى ترشح
السيسى.. وكأننا فى سيرك بلدى لا يكف صاحبه عن التقلبات والانقلابات بحثا
عن الثروات وحماية الشركات.
وأشد ما يؤلم أن يهمس البعض بأن ذهاب هيكل إلى مرسى لم يكن خالصا لوجه
مصلحة عامة وإنما شابته مصلحة خاصة.. تتعلق بابنه حسن الهارب فى لندن على
ذمة قضية لا تزال منظورة أمام القضاء.. لكنى.. لا أعتقد أن هيكل فاتح مرسى
فيها.. بل ولا أتصور أنه ألمح إليها من قريب أو بعيد.. فهو رجل يحتفظ
بكرامته مهما كان الثمن الذى سيدفعه.. وإن كان من الصعب عليه أن يكون هذا
الثمن حرية أحد أبنائه.. أعز ما يملك.
لكن.. أعتقد أن شبهة المصلحة المباشرة كانت تمنعه من الذهاب خشية الضرب تحت الحزام.
وما ضاعف من أهمية الواقعة أن مقربين من هيكل خاضوا فيها.. كما خاضوا فى
أمثلة أخرى لشخصيات بهلوانية تقلبات على كل لون.. ولا أريد أن أخرج عن
السياق بذكرها فهم لا يتمتعون بثقة مساحة عريضة من المصريين كما يتمتع
هيكل.. وربما كانت براعته فى التعبير.. وقدرته على الإقناع سببا فى استمرار
هذه الثقة.. لكنها.. للأسف تتراجع يوما بعد يوم.. من كثرة المواقف
المتناقضة التى وضع نفسه فيها.. ولم تكفه خبرته فى التفسير والتبرير
للاحتفاظ بها.. أقولها بكل حب وصدق لرجل يستحقهما.
ولم أكن أنا وحدى ممن يحبون هيكل الذى غضب من تصرفاته السياسية الودودة مع الإخوان.
كان الدكتور حسام عيسى وهو من مريدى هيكل ضيفى فى برنامج «آخر النهار» فى
وقت أعلن فيه هيكل قبل 30 يونيو أنه مستعد للتوسط بين الجماعة والقوى
الوطنية.. فعلق الرجل قائلا: «إنه يرفض تلك الدعوة».. بل أكثر من ذلك أضاف:
«إنه سيقاطع أحاديث هيكل التليفزيونية».. لن يشاهد المزيد منها.
أما السبب فهو أن هيكل أعلن على شاشة التليفزيون أنه سيقوم بمبادرة وساطة
للتوفيق بين الجماعة الإخوانية الحاكمة والجهات السياسية المعارضة بعد أن
فشل مرسى فى مد الجسور بين الطرفين.. والمعروف أن مثل هذه المبادرات غالبا
ما تكون لصالح السلطة أكثر من المعارضة ولو غلفت بكلمات جوفاء عن الاستقرار
والاستثمار.
والمؤكد أن شجاعة حسام عيسى جعلته يصرح بما فى صدره علنا.. وهو ما يتحرج
منه كثير من المقربين من هيكل.. فهم لا يريدون إغضابه.. ولا يريدون تعكير
صفو العلاقة بينه وبينهم.. وإن كان بعضهم تجرأ لنقده فى لقاءات محدودة
بعيدا عن العيون والآذان.. فى إنذار جديد بالخطر يهدد حب الصفوة الثقافية
والصحفية لشيخهم المعلم.
أنا شخصيا كتمت ما شعرت به تجاه مواقف هيكل فى زمن الإخوان ولم أفصح عنها..
لكننى فى الوقت نفسه قاطعت الاتصال به.. ولم أعد أجلس إليه.. اكتفيت بموقف
سلبى.. كسرته عندما حرقت مكتبته الأثرية فى برقاش.. إنها حضارة المشاطرة
فى النكبات التى ورثناها عن الفراعنة.
ما الذى جعلنى أتجاوز صمتى وأفصح عما فى صدرى.. إنها رحلته الأخيرة إلى بيروت.
لقد التقى هيكل فى بيروت بالسفير السورى على عبدالكريم على وتلقى منه رسالة
تقدير من بشار الأسد.. الحاكم الدموى الذى أباد أعدادا يصعب حصرها من
شعبه.. هل مثل هذا الرجل يقبل منه تقدير؟ وهل يحتاج هيكل الذى يرفض التكريم
مثل هذه الرسالة المكتوبة بدماء أبرياء لا ذنب لهم سوى أن القدر دفع إليهم
برئيس قاتل وذابح ومدمر.. ولا يشعر بالذنب؟
لست بالقطع مع فصائل القتال المعارضة المنتمية للقاعدة.. لكننى أيضا لست مع
استمرار النظام السورى.. هناك طريق ثالث نتخلص فيه من الفاشية الدينية
والديكتاتورية السياسية.
ولو كان هيكل قد اعترف بأنه سبق وتوسط بين الولايات المتحدة وإيران فهل
تأتى رحلته إلى بيروت للتوسط من جديد بين البلدين عبر حزب الله بعد أن
تغيرت سياسة واشنطن تجاه طهران؟
لقد التقى حسن نصر الله مرتين ولم نعرف ما دار بينهما.. لكننا نعرف أن زعيم
حزب الله الذى ساندناه فى حربه ضد إسرائيل أصبح معاديا لمصر.. ولجيشها..
وسبق أن تحالف وتعاون 90 عضوا من حزبه مع أفراد من حماس فى عملية تحطيم
السجون وإخراج رجالهما منها.. وخلال ساعات كان سامى شهاب فى بيروت وسط
احتفال بهروبه.. متقلدا من زعيمه النياشين والقبلات.. ولا يزال سامى شهاب
مطلوبا هو ومن ساعدوه على الهرب فى قضية جنائية تنظرها محكمة مصرية.
ولو كان حوار هيكل مع مرسى قد انتهى بإعلان طبخة مرسى المسمومة فى إعلانه
الدستورى فإن حوارات هيكل مع الجبهة الإيرانية ببيروت قد انتهت بإعلان
طهران المستفز بالتدخل فى الشأن المصرى قبل يومين.
ومن جديد عاد حديث البيزنس ليطل علينا من نافذة السياسة.. فقد خرجت مواقع
صحفية لبنانية تتحدث عن استثمارات حزب الله فى شركة زراعية يملكها أحمد
هيكل فى السودان.
وفى حديثه إلى صحيفة «السفير» أعلن هيكل أن السيسى لن يترشح للانتخابات
الرئاسية.. وأثار التصريح قلق بعض من المقربين من هيكل، فخرجوا يرفضون ما
قال علنا فى البرامج التليفزيونية الليلية.. فكان أن اتصل بهم شارحا
ومبرراً.. وخرج بتصريح عاجل يلقى فيه باللوم على الصحيفة التى فهمت كلامه
خطأ.. قائلا: «إن السيسى لن يرشح نفسه».
وهنا أصاب كبد الحقيقة.. فالسيسى لن يرشح نفسه إلا بعد أن يرشحه الناس..
فقد وضع السيسى شروطا منطقية وضرورية لقبوله منصب الرئيس.. أن يمر الدستور
بنسبة إقبال وتصويت مرتفعة.. وأن تخرج الحشود التى خرجت فى 30 يونيو و26
يوليو لتطالب بترشحه فى 25 يناير القادم.. أن يصوت له الشعب الذى يريده
ويطالب به فى الشارع قبل أن يصوت له فى صناديق الانتخاب.
ويمكن القول إن عنده حق.. فعندما قرر الانحياز إلى الشعب مقصيا حكم الإخوان
لم يكن ليهدف إلى الوثوب على الرئاسة.. ويخشى أن يفهم ترشحه من تلقاء نفسه
بأنه فعل ما فعل من قبل من أجل منصب أعلى.
ولم يشأ أن يستقر على رأى.. فقد عاد ليقول: «إن السيسى حائر».. فأعاد الناس
إلى مربع القلق من جديد.. وضاعف من ذلك أنه أضاف: «ويعز على السيسى البدلة
العسكرية».
وحسب معلوماتى، فإن السيسى قليل الكلام كثير الإنصات التقى بقيادات مؤثرة
وقادرة فى منتصف سبتمبر الماضى.. وبعد ثلاث ساعات تلاحقت فيها الشواهد
والبراهين على أهمية الطلب فض الرجل الجلسة بجملة قصيرة خاطفة: «لم أقل بعد
إننى وافقت» على الترشح.. فأعاد الجميع إلى نقطة الصفر.. على أن الحضور
اعتبروا النتيجة التى وصلوا إليها إيجابية.. فهو لم يقل «نعم».. ولكنه لم
يقل «لأ» أيضا.
والسيسى بحكم طبيعته الشخصية وخبرته فى المخابرات العسكرية لا يكشف بسهولة
عما فى أعماقه.. ولا يوحى لمن يتحدثون إليه باتجاه القرار قبل اتخاذه..
«ليس حائرا».. حسب تفسير هيكل.. وإنما يحسب كل صغيرة وكبيرة قبل أن يكشف عن
قراره.. ولو كانت «البدلة» العسكرية تعز عليه قيراطا فمصر تعز عليه
فدانا.. فقد وضع حياته قبل بدلته على كف الخطر قبل أن يقرر ما فعل فى 3
يوليو.
وفى حديث أخير وصف هيكل السيسى بأنه مرشح الضرورة.. وكأننا لا نجد غيره فى
ظل غياب شخصيات سياسية مدنية تنافسه.. والوصف فى رأيى غير لائق.. ويوحى
بأننا لا نجد غيره.. ومضطرون إليه.. وهذا غير صحيح.. فمازال فى مصر من يصلح
لمنصب الرئيس.. لكن.. السيسى هو الوحيد الذى وضع حياته على كفه وأنقذ مصر
من مصير مجهول.. ولهذا نحن معه.. وليس لأن لا أحد غيره أمامنا.
إن أخطر ما فى هيكل أن تعبيراته الأدبية تؤخذ على أنها تحليلات سياسية..
كما أنها تقبل اجتهادات متناقضة فى وقت زهقنا فيه من مسك العصا من
منتصفها.. وفى مرحلة لا تحتمل اللعب بالألفاظ.. البلاغة أصبحت فى الصراحة.
لقد كنت أتوقع أن يكون هيكل أكثر حرصا وهو يتناول مثل هذا الموضوع الذى
يترقبه مساحات عريضة من الشعب المصرى ترى فى السيسى أملا ورجاء.. بل ولا
ترى غيره على الساحة يستحق أن يصعد إلى قمة السلطة.. فهو الوحيد الذى قدم
عربونا دون أن يطلب شيئا.
إن هيكل هو الذى بدا حائرا وهو يتحدث عن ترشح السيسى ونقل ذلك إلى مستمعيه
ومشاهديه وهم يشكلون حجما يصعب الاستهانة به مما جعل بعضهم يقاطعه.. وجعل
البعض الآخر يشعر بأنه يسحب منه القشة التى يتمسك بها وسط ما يحدث من حوله.
لقد تعود هيكل ألا يرد على منتقديه.. بل ويزعم أنه لم يقرأ ما كتبوه ضده..
لكننى لا أنتقده.. وإنما أسأله كما تعودت.. فى انتظار الإجابات التى هى حسب
ما قال: «اجتهادات بعضها يصل إلى هدفه وبعضها سهام تطيش فى الفضاء».. خاصة
أن الزمن تغير.. وأصبح للعالم ذاكرة عريضة.. عميقة.. دائمة.. لا تشيخ..
تسع الجيد والقبيح.. يصعب تجاهلها.. اسمها الإنترنت.. لا ترحم من يسكت عن
حقه فى الدفاع عن نفسه.. ويفرط فى توضيح الحقيقة.. ليس فقد لأجيال حالية
تعرفه.. وربما تسامحه.. أو تجامله.. وإنما لأجيال قادمة.. لا تعرفه.. ولن
تسامحه.
No comments:
Post a Comment