عندما كنا أطفالا صغارا في التعليم الأساسي في الستينات والسبعينات كان هناك درس في المطالعة قررته علينا وزارة التعليم عنوانه "مذبحة دنشواي" ، كان يحكي عن "المذبحة" التي ارتكبها الاحتلال الانجليزي ضد الفلاحين المصريين في قرية دنشواي ، للتدليل على وحشية المحتل ، واسترخاصه الأرواح البريئة ، وكان عدد ضحايا "مذبحة" الاحتلال يومها سبعة مواطنين ، لا أدري إن كان درس المطالعة هذا ما زال باقيا في المناهج أم تم إزالته ، ولكني أعتقد أنه لن يكون له أي معنى بعد تاريخ الرابع عشر من أغسطس عام 2013 ، عندما قامت الحكومة المصرية بفض اعتصام مؤيدي الرئيس الأسبق محمد مرسي في ميدان رابعة العدوية بمدينة نصر وميدان النهضة بالجيزة ، حيث راح ضحية "المذبحة" قرابة ثمانمائة مواطن مصري ، حسب البيانات الرسمية للحكومة ، وحوالي ألفين بحسب أرقام أنصار مرسي ، وفي كلا الحالتين فإن الحديث عن مذبحة "دنشواي" الآن سيكون مزحة أو نكتة سخيفة .
الاعتصام في ميدان رابعة كان خطأ سياسيا ، خاصة عندما امتد لأسابيع عديدة ، فضلا عن الخطب المهووسة التي ألقيت من فوق منصته ، وكانت تفتقر لأبجديات الوعي السياسي ، لأنه كان أفقا مسدودا ، في واقع شعبي منقسم سياسيا ومشبع بالغضب والكراهية وميراث الدم ، فتم دفع ملايين الشباب الغاضب إلى صراع صفري مروع مع ملايين أخرى معارضة ، فضلا عن المؤسسة العسكرية التي ألقت بثقلها خلف قرار إطاحة مرسي أيا كانت التكاليف ، كان الصدام المروع قادما لا محالة ، وأذكر حينها ، وقبل فض رابعة بأسبوعين تقريبا ، قدمت آخر حلقة لي في قناة الجزيرة مباشر ، في برنامج على ما أذكر اسمه "على مسئوليتي" وقدمت النصيحة مخلصا لأنصار مرسي أن يعملوا وفق منطق السياسة والحلول الوسط ، وأن تخسر نسبة من مكاسبك السياسية وتحفظ قواعدك وتحفظ بلدك من فتنة عمياء أفضل من الخوض في صراع صفري مدمر وفرصك فيه ضعيفة لأن أجهزة الدولة بكاملها ضدك ومعها ملايين المواطنين يتعاملون معك بكراهية وليس فقط بمعارضة ويحرضونها على سحقك ، وقلت وقتها أن الصراعات الصفرية تعني السحق الكامل للطرف المهزوم بلا رحمة وإنهاء وجوده ، ونصحت بتفكيك الاعتصامات في رابعة والنهضة بشكل سلمي وتدريجي ، وكنت على ثقة بأن فض الاعتصامات قادم بكل تأكيد ، لأن بقاءه كان مهينا للدولة وقتها ، ومربكا لها ، وخصما من شرعية النظام الجديد ، وهو ما لم يكن يتصور أحد أن يقبل به الجيش أو حتى خصوم الإخوان من النشطاء والسياسيين ، ولكن للأمانة ، لم يأت على خاطري أبدا ، وفي أسوأ كوابيسها أن يتم الفض بتلك الطريقة الدموية الرهيبة ، التي لم تعرف مصر لها مثيلا حتى أيام الاحتلال الانجليزي ، كنت واثقا ـ وأحدث من حولي بذلك ـ أن الداخلية ستستخدم غاز الأعصاب وخراطيم المياه والهراوات مع حصار المنطقة وقطع المياه والكهرباء عنها وسينتهي الأمر في يومين على أكثر الأحوال ، لكن يبدو أن هناك من كان يفكر في "رسالة" محددة وليس مجرد الفض .
اعتصام رابعة كان اعتصاما سلميا بالفعل ، ومئات الآلاف الذين كانوا يحتشدون هناك كانوا لا يحملون أكثر من زادهم من طعام وشراب ومصاحف وأجهزة الموبايل ، وكنا نرسل صحفيين لتغطية الحدث وكانوا يتجولون في كل شبر ويؤكدون تلك الحقيقة ، لكن في تجمع ضخم كهذا لن تعدم أفرادا من المهاويس الذين يحمل أحدهم مسدسا أو مطواة وأشخاصا قليلين كانوا يحملون سلاحا آليا من المنتشر في صعيد مصر ، كانوا يتصورون أن الضربة الأولى ستأتيهم من البلطجية على طريقة ما كان يحدث في ميدان التحرير وشوارعه أيام ثورة يناير ، وكان بعض الشباب الإخواني المتطرف في الاعتصام يستخدم العنف بغشومية وجهالة حتى مع الصحفيين ، وتم الاعتداء على أحد صحفيينا وقتها من قبل أحمد المغير وأوشك على أن يكسر له ذراعه ، ورفضنا أن نقدم شكوى أو بلاغا وقتها حتى لا يساء تفسيرها ، واسترضينا الزميل الصحفي ، والزملاء عندنا يعرفون القصة بتفاصيلها ، وقد اعترف أحمد المغيرة قبل يومين بأن مجموعة صغيرة من أمثاله كانوا يحملون سلاحا ناريا ويختبئون خلف "طيبة مول" ، وهذه معلومات ليست جديدة ، وكنا نعرفها وقتها ولا نخوض فيها ، كما كانت تعرفها الأجهزة الأمنية أيضا ، ولكنهم مجموعة صغيرة وهامشية ومهووسة ، لكن هذا الشذوذ والسلوك الفردي لا ينفي أبدا أن الاعتصام نفسه كان سلميا ، وأن القوة الباطشة التي قامت بفضة يستحيل تبريرها وفق أي منطق .
سيقول التاريخ كلمته في ما حدث بعد حين ، وستقول العدالة كلمتها أيضا ، عندما يكون المناخ السياسي مواتيا ، لكن القدر المتيقن أن مأساة رابعة يتحمل مسئوليتها أكثر من طرف ، وليس طرفا واحدا ، والسلطة طرف أساس فيها ، ولكن الإخوان وقياداتهم كانوا طرفا أساسيا آخر ، فهم الذين حشدوا تلك الحشود في ميدان المحرقة بدون أي أفق سياسي ، وعيشوهم في الوهم ، وحكايات خرافية عن عودة مرسي خلال ساعات أو خلال أسابيع ، وعن "الانقلاب الذي يترنح" وعن الوسطاء الدوليين باعتبارهم أتوا دعما لمرسي و"الانقلاب" يستغيث بهم ، والخطاب الإعلامي لمنصات الاعتصام المنقولة على الهواء ، والتي قطعت كل خيوط التلاقي بين أنصار مرسي وبقية المصريين بل كانت تتوعدهم وتهددهم بالسحق وبالمشانق في ميدان التحرير ، مما نشر الخوف بالفعل ، وعزز من قناعة الكثيرين بأن فض هذا الاعتصام ضرورة وطنية وأضعف من أي فرصة للتعاطف الشعبي معه .
من أيدوا الفض أو طالبوا به لا يمكن تحميلهم مسئولية ما جرى ، لأنه ليس معنى المطالبة بفض مظاهرة أن تقصد قتل كل من يشارك فيها ، لكن من أيد ما حدث بعد ما حدث أو باركه أو شمت فيه يتحمل مسئوليته أمام الله وأمام الناس وأمام التاريخ ، كما أن الذين يدينون ما حدث في مذبحة رابعة الآن ليسوا من داعمي الإخوان ، بل أكثرهم من خصومهم السياسيين ، فالموقف من رابعة موقف إنساني وأخلاقي ، قبل السياسة وبعدها ، وتصعيد قيادات الإخوان لانتقاداتهم واتهاماتهم لخصوم مرسي مستثمرين ما حدث في رابعة ، هو هروب إلى الأمام كما يقال ، لصرف الانتباه عن أخطاء الجماعة وفشلها في إدارة الأزمة ،وللهرب من المراجعات السياسية الضرورية التي تلزمهم تجاه دماء وأرواح من ذهبوا ، وتجاه الثورة بكاملها ، والتي كانت ـ وليس مرسي وحده ـ ضحية سوء أدائهم ، ضمن أخطاء الآخرين بالطبع ، وبشكل عام لا يعترف الإخوان بأي أخطاء سياسية ، ولا يعتذرون ، وإن تحدثوا عن الأخطاء يتكلمون عن التنظير والقواعد العامة ، كلنا بشر وكل بني آدم خطاء ، لكن لا يعترفون بخطأ محدد ، وهو ما سمح بتكرار الأخطاء الفادحة على مدار دورات التاريخ الحديث ، وبصورة شبه حرفية من شدة تطابقها .
رحم الله الشهداء ، رحم الله أبناء الوطن الذين ذهبوا ضحية تلك الفتنة ، من مواطنين ورجال شرطة أو رجال جيش ، وألهم الله مصر وأهلها طريقا للحل والخروج من الأزمة ، وحقن الدماء ، وتأسيس مستقبل أكثر عدلا ورشدا .
No comments:
Post a Comment