من هو على سالم ................. اقرا راى جمال سلطان
لم احب الكتابة عن الكاتب الراحل "علي سالم" خاصة بعد وفاته قبل أيام ، وتعمدت تجاهل ذلك ، باعتباره إنسانا أفضى إلى ما قدم وأصبح بين يدي حكم عدل ، أرحم منا وأعدل وأعلم بخلقه ، ولكني عدت مضطرا للحديث عنه ، كحالة وليس كشخص ، بعد أن تعددت الكتابات في أعقاب وفاته تخلط الأمور خلطا مثيرا ، وتبتز صمتنا وأعرافنا العربية والإسلامية لكي تسوق مشروع "التصهين الثقافي" الذي يهدف إلى نشر ثقافة التطبيع مع العدو الصهيوني بوصفها موقفا شجاعا ونظرة مستقبلية ناضجة ، وكتب بعض هؤلاء "المتصهينين" العرب يثنون على شجاعة علي سالم ويؤكدون على أنه "انتصر" على من اختلفوا معه أو هاجموه ، بثباته على "مبادئه" والتي هي تمسكه بالتطبيع مع "إسرائيل" وثناؤه الدائم على رسالتها "الحضارية" ، وبعضهم كتب يتحدث عن "نبل" علي سالم وإنسانيته وأنه علمنا "معنى الحياة" ، وكل ذلك محاولات رخيصة ، ليس لرثاء علي سالم ، فهم يعرفون أنها أكاذيب ، وإنما لتوظيف وفاته ورثائه لتسويق مشروع "التصهين" الذي يقوم عليه قلة محدودة من الكتاب المصريين في القاهرة أو "مجموعة سعودية" صغيرة مغتربة المشاعر والولاء والإقامة ومدعومة من أبو ظبي بوجه خاص ، وحيث تسيطر على مركز للأبحاث وتدير صحفا وفضائيات مهمة .
علي سالم كاتب مسرحي اشتهر بمسرحيته "مدرسة المشاغبين" التي مثلها عادل إمام وآخرون ونجحت لسنوات على المسرح ، وأبعد من ذلك لا يوجد شيء استثنائي قدمه للمسرح إلا أعمال عادية وأغلبها مات في مهده أو بقي في الظل والهامش ، غير أن مواقفه من الدعوة إلى التطبيع مع "إسرائيل" كانت صادمة للعرب والمسلمين ، خاصة أنها أتت في ذات التوقيت الذي كان فيه "الصهاينة" يقتلون الأطفال والنساء في فلسطين لمجرد أنهم يحملون الحجارة دفاعا عن أرضهم وعرضهم ، وكانت الصدمة الأكبر عندما أخذ سيارته وسافر إلى هناك ليستقبل استقبال الأبطال الفاتحين واحتفلت به الصحافة الإسرائيلية والجامعات ومراكز الأبحاث ، لأنه كسر جدارا صلبا من المقاطعة المهينة التي تحول "الكيان" إلى حالة منبوذة في المحيط العربي ، وكانت وما زالت تمثل أهم داعم سياسي ومعنوي للصمود الفلسطيني في الأرض المحتلة وفي أكناف المسجد الأقصى ، ثم عاد علي سالم ليكتب مقالات يتغزل فيها بإسرائيل وتحضرها وإنسانيتها ويحرص على كتابة تفاصيل درامية لتعميق مشاعر الود مع "الصهاينة" حتى أنه حرص على ذكر تفاصيل ما دار بينه وبين طبيب "إسرائيلي" عالجه من خراج أو "كيس دهني" ، كان ما قدمه علي سالم مروعا بالمقياس الوطني والعربي والإسلامي بقدر ما كان انتصارا للاختراق الصهيوني للنخبة المصرية والعربية ، ولذلك منحوه جوائز كبيرة كما قدمت له جامعة "بن جوريون" الإسرائيلية الدكتوراة الفخرية عرفانا بفضله ، إلا أن حسني مبارك رفض السماح له بالسفر إلى هناك لاستلام الجائزة في حفل كبير ، تحاشيا للحرج الذي سيصيب مصر من ذلك ، وقد غضب علي سالم يومها غضبا شديدا لمنعه من السفر لإسرائيل واستلام شهادة الدكتوراة .
نتيجة سلوك علي سالم كان أن تعرض لمقاطعة شبه شاملة مصريا وعربيا ، وهذا ما سبب له عناءا نفسيا كبيرا وعناءا ماديا أيضا ، أنقذه منه مجموعة الكتاب السعوديين المتصهينة والمتحصنة في "أبو ظبي" عبر إتاحة منافذ نشر له في صحف ومواقع بمكافآت كبيرة ، كما منحه مركز أبحاث أمريكي مقرب من "إسرائيل" مكافأة بحوالي خمسين ألف دولار تقديرا لشجاعته ! ، غير أن الحصار النفسي الذي تعرض له جعله يستبطن عداوة مريرة تجاه كل ما هو عربي أو إسلامي ، فكانت مواقفه شديدة العدوانية والانفلات ، ورغم أنه قدم نفسه كداعية سلام لنبذ الدماء والعنف ، إلا أنه كان محرضا على القتل والحرق للمعارضين في بلاده بدون محاكمات ، ونشر مقالا شهيرا في صحيفة مصرية بعنوان "جماعة شرف البوليس" ، يدعو فيها لاستلهام تجربة قال أنها حدثت في تاريخ فرنسا القديم عندما شكلت الشرطة ميليشيات خارج نطاق القانون كانت تقتل المعارضين وتحرق بيوتهم سرا بدون محاكمات وقال أنه يدعو الشرطة المصرية إلى إنشاء ميليشيات مشابهة لقتل المعارضين لنظام الرئيس السيسي وحرق بيوتهم عند الاشتباه في تورطهم في أعمال عنف ضد الشرطة ومنشآتها ، ويلاحظ أنه استلهم في المقال سلوك الجيش "الإسرائيلي" ضد الفلسطينيين حيث يقوم بقتل من يهاجمون قوات الجيش أو الشرطة أو هدم بيوتهم ، وهو مقال فاشي بامتياز وكان يستوجب محاكمة صاحبه لتحريضه على القتل وإهدار القانون وتجاوز القضاء ، ولكنه مر في "هوجة" الخصومة مع الإخوان في أعقاب إطاحة مرسي .
وعنف علي سالم وكراهيته لبني قومه كان نتيجة لاستحالة اجتماع ولاءين متناقضين في ضمير إنسان ، الولاء للأمة والولاء لأعدائها ، كما أن الشعور بالانتباذ من محيطه العربي والإسلامي كان يدفعه "نفسيا" لموقف كاره لهذا المحيط ويستلذ بآلامه وأوجاعه ، وكان من المفارقات "الحزينة" أن آخر لقاء تليفزيوني لعلي سالم قبل وفاته بيومين فقط يدافع فيه عن "إسرائيل" ويؤكد على أنها صديق وليست عدوا ولا تمثل خطرا على مصر والعرب ، وإنما الخطر هو الإرهاب الذي تمارسه "حماس" وغيرها ، رغم أن آلة القتل الإسرائيلية كانت دائرة ضد الأطفال والنساء في فلسطين في نفس اللحظة .
مات علي سالم ، يرحمه الله ، وكنا نأمل أن تطوى صحفته ، إلا أن "المتصهينين" العرب يأبون إلى أن يحاولوا استثمار "العزاء" في صناعة أوثان رمزية مختلقة يتسترون وراءها لتمرير أفكارهم هم وأمنياتهم هم والمعاني والولاءات "المتصهينة" التي لا يجرؤون على البوح بها علنا ، ولولا هذا "الابتزاز" الذي مارسوه للأعراف العربية ونبل صمتنا في حالات "الموت" لما اضطررنا إلى الكتابة هنا ـ كارهين ـ عن علي سالم ، الحالة والظاهرة وليس الشخص .
No comments:
Post a Comment