شعرت بتوتر نفسي حقيقي أمس ، ووجع في القلب وأنا أقرأ سطورا كتبها القائد العسكري اللواء محمد نجيب ، أول رئيس للجمهورية بعد إنهاء حكم الملك فاروق ، وبعد أن انقلب عليه زملاؤه ضباط الجيش بقيادة جمال عبد الناصر ، على خلفية تمسكه بعودة الديمقراطية وإصرارهم على الانفراد بالسلطة ، ولم يكتفوا بعزله بل أهانوه واعتقلوه أكثر من عشرين سنة في مكان حقير قبل أن يفرج عنه السادات مع تحديد إقامته ، حيث توفي في بدايات عهد مبارك عام 1984 ، سطور محمد نجيب الموجعة تكشف عن أننا أمة لا تقرأ بالفعل ، ولا تستفيد من تاريخها ، ولا تتعلم من دروس الماضي ، لذلك ظلت مصر وقواها الوطنية أسيرة الأمية السياسية والسذاجة المتعلقة بها عادة ، الجميع ، وليس طرفا أو فصيلا وحده ، الجميع لم يتعلم من دروس التاريخ .
يقول نجيب في مذكراته التي تناقلت أجزاء منها أمس مواقع التواصل الاجتماعي وعنها أنقل :
ما أقسى المقارنة بيني وبين فاروق عند لحظات النهاية والوداع ، ودعناه بالاحترام وودعوني بالإهانة ، ودعناه بالسلام الملكي والموسيقى ، وودعوني بالاعتقال والصمت.
لقد قتلت الثورة كل معايير التعامل مع البشر ، الذين قاموا بها طحنتهم ، والذين نافقوها رفعتهم ، وتعجبت ..
…………………
كانت مشاعري معهم ، مع الإخوان ، رغم أنهم تخلوا عني وعن الديموقراطية و رفضوا أن يقفوا في وجه عبد الناصر إبان أزمة مارس ، بل وقفوا معه و ساندوه ، بعد أن اعتقدوا خطأ أنهم سيصبحون حزب الثورة ، و أنهم سيضحكون على عبد الناصر و يطوونه تحتهم ، فإذا بعبد الناصر يستغلهم في ضربي و في ضرب الديموقراطية و في تحقيق شعبية له ، بعد حادث المنشية.
إن الإخوان لم يدركوا حقيقة أولية ، هي إذا ما خرج الجيش من ثكناته فإنه حتما سيطيح بكل القوى السياسية و المدنية ، ليصبح هو القوة الوحيدة في البلد ، و أنه لا يفرق في هذه الحالة بين وفدي و سعدي و لا بين إخواني و شيوعي ، وأن كل قوة سياسية عليها أن تلعب دورها مع القيادة العسكرية ثم يقضى عليها ، لكن ، لا الإخوان عرفوا هذا الدرس ولا غيرهم استوعبه ، ودفع الجميع الثمن ، ودفعته مصر أيضا ، دفعته من حريتها وكرامتها ودماء أبنائها ، فالسلطة العسكرية أو الديكتاتورية العسكرية لا تطيق تنظيما آخر ، ولا كلمة واحدة ، ولا نفساً ولا حركة ، ولا تتسع الأرض إلا لها ولا أحد غيرها ....
التحول من العمل الجماهيري إلى الإرهاب أعطى دلالة بالغة على فقدان الثقة في الشعب وهو ما سقطت فيه قيادات الإخوان المسلمين ، ولم يدفع الإخوان وحدهم الثمن ، دفعها شباب مصر ، ورجاله ، ودفعه أيضا أبنائي ، فالإرهاب يولد إرهابا ، والدم يفجر الدم ، والقسوة تعشق القسوة ، والدكتاتورية العسكرية لا تحكم إلا بدولة المخابرات ، فثمن البقاء في السلطة كان دائماً دماء أبناء مصر وخيرة شبابها ، وكان ابني فاروق أحد هؤلاء الشباب..تعذب فاروق وهو صبي نفسياً ، وتعذب جسمانيا وهو شاب ورجل ، فعندما جئنا الى مُعتقل المرج ، جاء إليّ (ابني) فاروق ليسألني في اهتمام شديد : - أبي هل صحيح أنك كنت أول رئيس للجمهورية؟ وتعجبت للسؤال ، لكني ابتسمت لفاروق ، وداعبته ، وقلت له : نعم يا بني ، لكن ما يجعلك تسأل هذا السؤال ؟ هذا تاريخ مضى وانقضى ، ولمحت دموعاً في عيني الصبيّ ، وهو يقدم لي كتاباً في المطالعة ، جاءت فيه هذه العبارة (وجمال عبد الناصر هو أول رئيس للجمهورية) ، رفعوا اسمي من كافة الكتب ، شطبوا اسمي من التاريخ! ، كأنني كذبة أو خُرافة أو إشاعة ، هكذا يزيف التاريخ ببساطة ، وهكذا يتعلم الأولاد الكذب ، وعندما أصبح فاروق شاباً أُعتقل بتهمة الاعتداء على النظام وبسبه ، ودخل ليمان طرة مع المعتقلين السياسيين ، وبقي هناك خمسة أشهر ونصف ، خرج بعدها محطماً ومريضاً بالقلب ، وبعدها بفترة قليلة مات ، مات من الغم والقسوة والقرف ، وقبل ذلك بعام واحد ، قُتل ابني الثاني ، عَلِيّ ، في ألمانيا الغربية ، ونقل جثمانه من ألمانيا إلى مصر ودُفن ، دون أن يُسمح لي باستقبال نعشه ، أو قراءة الفاتحة على قبره ، أما ابني الثالث يوسف لم يجد ما يفعل سوى أن يعمل على سيارة أجرة (تاكسي) الضواحي! .
ابني الأكبر مات مقتولا ، الثاني مات بعد اعتقاله ، الثالث فصل من عمله بقرار جمهوري .
…………
فوجئت بحضور ضابطين من البوليس الحربي لينقلاني الى مكان آخر (نقل محمد نجيب لمعتقل نجع حمادي سنة 1956) ، لم أعرف إلى أين ، ولم يقولا لي !! ، وعندما سألتهما كان الرد بشعاً ، أعتذر عن ذكره ، وأشعر بالقئ كلما تذكرته ، كان الجواب سيلاً من الشتائم ، حاولت وقفه بصرخة احتجاج ، فإذا بضابط منهما يدفع يده في صدري ويلكزني فيه ، ودارت بي الدنيا ، وهانت علي الحياة ، وهممت بالهجوم عليه ، لكن أيدي الجنود حالت بيني وبينه ، وساعتها أدركت ماذا فعلت حركة يوليو 1952 في مصر ، كيف أزالت الاحترام بدلًا من الفوارق بين الطبقات ، كيف أطاحت بالكرامة في الوقت الذي كانت تقول فيه "ارفع رأسك يا أخي" ، أي تغيير وقع في مصر ، أي انهيار حدث في تقاليد الجيش؟
………………
لا أمل أن يتقدم (الشعب) ، سوى بالديمقراطية ، الحرية قبل الخبز أحياناً ، الديمقراطية قبل العدالة الإجتماعية أحياناً ، وقد دفعت أنا ثمن هذه الكلمة الخالدة "الديمقراطية" ودفع الشعب ثمنها أيضاّ ، ولكني الآن لا أستطيع أن أفعل المزيد ، فقد هدتني الشيخوخة وأقعدتني ، وحاصرتني أمراضها ، وأصبح على أن انتظر لقاء ربي بين لحظة وأخري ، لكن الشعوب التي تعوض شيخوختها بشبابها وماضيها بمستقبلها ، تملك الفرصة الذهبية في تغيير واقعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
من كتابه "كنت رئيسا لمصر"
يرحمه الله .
No comments:
Post a Comment