Tuesday, September 15, 2015

حـكـم أخـذ الشـَّعـر أو الظـُّـفــُر   في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يُضحِّي....... بحث جيد ومفيد لمن اراد ان يضحى




حـكـم أخـذ الشـَّعـر أو الظـُّـفــُر   في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يُضحِّي



الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأكمل التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . وبعد:

فإنه حين يُهِلُّ هلالُ ذي الحجة من كل عام, وتدخل العشر المباركة منه, ويبدأ الناس بالاستعداد للأضاحي, ويتهيأون لاستقبال عيد الأضحى: يأتي سؤال الكثيرين في تلك الغمرة مع حَيْرة وتردد لكثرة ما يسمعون: هل يجوز لمن أراد أن يضحي إذا هلَّ هلال الحجة ودخلت العشر أن يأخذ شيئاً من شعر رأسه, أو لحيته, أو ظفره, أو نحو ذلك, أم لا يجوز؟

وحين وجدت ذلك يتكرر مراراً, ويُطرح في المجالس ليلاً ونهاراً, حتى كثُر فيه الجدال والنقاش, ولم أر مَن بَسَطَ القول في هذه المسألة, ولم أجد مَن كَتَبَ فيها كتابة مستقلة مفردة, وجدت نفسي أمام بحث جدير بأن يُخَصَّ بدراسة متعمقة مستقصيةٍ لما ورد في هذه المسألة من أقوالٍ للفقهاء, وما استدلوا به من أدلة, مع بيان وجهة نظر كلٍّ منهم.

وهكذا استعنت بالله تعالى على ذلك, راجياً منه جلَّ وعلا السداد والصواب والقبول, والإخلاص في القول والعمل.

هذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً, والحمد لله أولاً وآخراً.



الأضـحــيــة

لغة: بضم الألف, وقيل بكسرها, وتخفيف الياء وتشديدها, وجمعها: أضاحي. ويقال لها: ضَحِيَّة: بفتح الضاد, وتشديد الياء, وجمعها: ضحايا([1]). والأضحية في الشرع: هي الشاة التي تُذبح يوم الأضحى, أو ما يُذكَّى من النَّعَم تقرباً إلى الله تعالى في أيام النحر بشرائط مخصوصة.  وقد شُرعت الأضحية في السنة الثانية من الهجرة, وهي السنة التي شرعت فيها صلاة العيدين, وزكاة المال([2]).


فـضــــل الأضـحــيــة

1ـ عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله r قال: (ما عمل آدمي من عمـل يوم النَّحْر أحبَّ إلى الله من إهراق الدم, إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها, وأشعارها, وأظلافها, وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض, فطيِّبوا بها نفساً)([3]).
2ـ قال الترمذي([4]): ويروى عن النبي r أنه قال: (في الأضحية لصاحبها بكل شعرة حسنة).

3ـ وعن علي t أن رسول الله r قال: (يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك, فإن لك بأول قطرة مغفرة لكل ذنب, أَمَا إنه يُجاء بلحمها ودمها توضع في ميزانك سبعين ضعفاً). قال أبو سعيد: يا رسول الله. هذا لآل محمد خاصة, فإنهم أهلٌ لما خُصُّوا به من الخير, أو للمسلمين عامة؟ قال r : (لآل محمد خاصة, وللمسلمين عامة). الحديث([5]).



حـــــكــم الأضــحـيــة

اختلف فقهاء المذاهب الأربعة في حكم الأضحية على قولين:
القول الأول: أنها واجبة, وبهذا قال الحنفية([6]): أبو حنيفة ومحمد وزفر والحسن بن زياد وإحدى الروايتين عن أبي يوسف.

والواحب هنا عند الحنفية على مصطلحهم, وهو درجة بين الفرض والسنة, كما أنه على مراتب, بعضها آكد من بعض: فوجوب سجدة التلاوة آكد من وجوب صدقة الفطر, ووجوب صدقة الفطر آكد من وجوب الأضحية, وذلك باعتبار تفاوت الأدلة في القوة([7]).

القول الثاني: أنها سنة مؤكدة, وبهذا قال المالكية([8]) والشافعية([9]) والحنابلة([10]), ورواية عن أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة.

ومما استَدل به أصحاب القول الأول: ما رواه أبو هريرة t قال: قال رسول الله r : (مَن وَجَد سَعَةً فلم يضحِّ: فلا يقربنَّ مصلانا)([11]).

وجه الدلالة: أن مثل هذا الوعيد لا يلحق بترك غير الواجب.

ومما استَدل به أصحاب القول الثاني: ما  رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله r يقول:

(ثلاثٌ هنَّ علي فرائض, وهنَّ لكم تطوع: الوتر, والنحر, وصلاة الأضحى) ([12]).




وقت التـضـحـيـة

 اتفق فقهاء المذاهب الأربعة([13]) في بدء وقت التضحية جملة, مع تفصيل في بعض الفروع, فقالوا: يبدأ وقتها من بعد صلاة العيد. وهذا لأهل الأمصار عند الحنفية, وأما غير أهل الأمصار, فيبدأ وقت التضحية من بعد طلوع الفجر. وأما غير الحنفية فلا فرق عندهم بين أهل الأمصار وغيرهم. وأما نهاية وقت التضحية فاختلفوا فيه على قولين:
القول الأول: ينتهي بغروب شمس ثالث أيام العيد, أي: يوم العيد ويومان بعده من أيام التشريق, وبهذا قال الحنفية, والمالكية, والحنابلة.

القول الثاني: ينتهي بغروب شمس رابع أيام العيد, أي: يوم العيد, وثلاثة أيام من أيام التشريق, وبهذا قال الشافعية. ولكلٍّ أدلته من أقوال الصحابة رضي الله عنهم, وغيرها, تنظر في المصادر السابقة الذكر لكل مذهب. وبيان وقت التضحية يفيدنا جداً في مسألة البحث, لأن حكم أخذ الشعر والظفر ينتهي عند التضحية, فمنهم من يضحي أول يوم, ومنهم من يضحي بعده, وهكذا.

أقوال الفقهاء في مسألة أخذ الشعر أو الظفر في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي

اتفق الفقهاء رضي الله عنهم على جواز أخذ الشعر والظفر في عشر ذي الحجة لمن لم يُـــــرِد أن يضحي, إذ هو حلال .
لكن اختلفوا في حكم أخذ الشعر أو الظفر في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي على أربعة أقوال:

القــول الأول:

إباحة وجواز الأخذ, ومن فعل ذلك وأخذ من شعره أو ظفره: فلا بأس عليه, ولا يكره ذلك.  وبهذا قال الحنفية: أبو حنيفة وصاحباه.  وأسوق فيما يلي عبارات أئمة الحنفية في ذلك:

? قـال الإمام الطحاوي([14]) (ت 321 ه): لا بأس بقص الأظافر والشعر في أيـــام الـعـشــر لمن عزم على أن يضحي, ولمن لــم يعزم على ذلك, وهو قول الإمام أبي حنيفة وصاحبيه.  وقال الإمام أبو بكر الرازي الجصاص([15]) (ت 370 ه): لا بأس لمن يريد أن يضحي أن يحلق شعره, ويقص أظفاره في عشر ذي الحجة. أما الإمام القدوري (ت 428 ه) فقد قال([16]): إذا دخل العشر وأراد الإنسان أن يضحي, أو عيَّن أضحيته: لم يلزمه أن يجتنب حلق الشعر, وقصَّ الأظافر .اه . وممن صرَّح بهذا الحكم من متأخري الحنفية الإمام ابنُ مَلَك عبد اللطيف بن عبد العزيز (ت 801 ه), حيث قال في كتابه مبارق الأزهار([17]): وذهب أبو حنيفـة, ومالك في رواية إلى أن إزالة الشعر والظفر غير مكروهة اه.  ونقل هذا الحكم عن ابن ملك الإمام ملا علي القاري(ت 1014ه), ولكن بصياغة أخرى, أن ابن ملك قال: ورخَّص في الأخذ أبو حنيفة والأصحاب([18]).  وقــد نقل هـــذا الــــرأي عن الحـنـفـيـة فريقٌ من الأئمة من غير الحنفية, وهــذه عباراتهم:  ـ قال الإمام الخطابي (ت 388 ه) في معالم السنن([19]): ورخَّص أصحــاب الرأي في ذلك. اه  ـ وعـبَّر ابن حزم([20]) (ت 463 ه), وابن الـقـيـم([21]) (ت 751 ه) بقولهما: وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى الإباحة. اه

? وعبَّر فريق كبير منهم([22]) بقولهم: وقال أبو حنيفة: لا يكره ذلك. اه

? وقال الماوردي (ت 450 ه) في الحاوي الكبير([23]): وقال أبو حنيفة, ومالك: ليس بسنة, ولا يكره. اه، وقال ابن جُزَي (ت 741 ه) في القوانين الفقهية([24]): ولم يستحب أبو حنيفة ذلك.  وقال قاضي القضاة الإمام محمد بن عبد الرحمن الدمشقي الشافعي (ت بعد 780 ه), صاحب كتاب رحمة الأمة في اختلاف الأئمة([25]): قال أبو حنيفة: الأخذ مباح, لا يكره, ولا يستحب. اه

? ونُقل مثل هذا القول, وأن الأخذ مباح لا بأس به: عن الإمام مالك رحمه الله, بل جعله ابن عبد البر([26]) هو المذهب عند المالكية, وجعله أيضاً قولَ سائر فقهاء المدينة والكوفة.  أما ابن رجب الحنبلي([27]) فقد جعله قول كثير من الفقهاء.    وجعل الطحاوي([28]) هذا القول هو قول الإمام الفقيه المحدث عطاء بن يسار المدني (ت 103 ه), أحدِ كبار التابعين, ومولى أم المؤمنين ميمونة الهلالية, وأيضاً جَعَلَه قولَ أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (ت 94 ه) أحد الفقهاء السبعة بالمدينة المنورة.

القول الثاني

يستحب عدم الأخذ, ومن فعل ذلك وأخذ من شعره أو ظفره: فلا بأس عليه, ولا يكره, لكنه خلاف الأَوْلى.  وبهذا قال فريق من متأخري الحنفية, بل نُسِب لشُرَّاح الحديث من الحنفية.  فقد قال الإمام ملا علي القاري([29]) (ت 1014 ه) بعد أن نقل كلام ابن مَلَك السابق, وهو: ورخَّص في الأخذ أبو حنيفة والأصحاب قال: وظاهر كلام شُرَّاح الحديث من الحنفية: أنه يستحب ـ عدم الأخذ ـ عند أبي حنيفة, فمعنى: رخَّص([30]): أن النهي للتنزيه, فخلافه: خلاف الأَوْلى, ولا كراهة فيه, خلافاً للشافعي. اه

وقال ابن عابدين([31]) نقلاً عن شرح منية المصلي([32]) للحلبي إبراهيم بن محمد (ت 956 ه), حين ذكر حديث أم سلمة الآتي قريباً في النهي عن أخذ الشعر والظفر في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي قال: فهذا محمولٌ على الندب, دون الوجوب بالإجماع. اه, والمراد إجماع الحنفية, والله أعلم.  وتمام عبارة ابن عابدين نقلاً عن شرح المنية:

(وفي المضمرات: عن ابن المبارك([33]) (ت 181 ه) في تقليـــم الأظافر, وحلــق الرأس في العشـــــر ــ أي عشـــــر ذي الحجـــة ــ  قــال:  لا تُــؤخَّــر الســُّنَّة, وقد وَرَدَ ذلك, ولا يجب التأخير. اه، ومما ورد في صحيح مســــلم: قال رســـول الله r: إذا دخل العشـــر, وأراد بعضُكم أن يضحي: فلا يأخذنَّ شـــعراً, ولا يَقلمنَّ ظفراً. فهذا محمـــولٌ على النـــدب, دون الوجـــوب بالإجماع.  فظهر قوله: ولا يجب التأخير, إلا أن نفـــي الوجــــوب: لا ينافي الاستحباب, فيكون مســـتحباً([34]), إلا إذا اســــتلزم الزيـــادة على وقـــت إبـــاحــــة التـــأخير, ونهايتُه ما دون الأربعين([35]), فلا يباح فوقها([36])). اه من ابن عابدين نقلاً عن شرح منية المصلي.

ويظهر من هذه النقول, أن أصحاب هذا القول يفرِّقون في هذه المسألة بين خلاف الأولى, والكراهة التنزيهية, وأن خلاف الأَولى (تَرْك الأَوْلى) هو دون الكراهة التنزيهية, وأن مَن أخذ من الشعر أو الظفر فقد فعل خلاف الأَوْلى, ولا يكره ذلك, كما صرَّحوا به فيما تقدَّم.

ولبيان هذا المصطلح الأصولي: (خلاف الأَوْلى), وهل هو مطابقٌ لما قاله الإمام ملا علي القاري في هذه المسألة, أنقل ما قاله ابن عابدين([37]) رحمه الله, ونصُّه: مطلب: ترك المندوب: هل يكره تنزيهاً؟ وهل يُفرَّق بين التنزيه, وخلاف الأَوْلى؟  ثم نقل ابن عابدين عن النهر الفائق قولَه: ولا شك أن ترك المندوب: خلافُ الأَوْلى. اه، كما نقل عن البحر الرائق([38]) قولَه: ولا يلزم من تَرْك المستحب: ثبوت الكراهة, إذ لابدَّ من دليلٍ خاص, ثم قال ابن عابدين: وهو الظاهر, ففِعْل النوافل من الطاعات أَوْلى من تركها, ولا يقال: إن تركها مكروه تنزيهاً. اه، وقال ابن عابدين([39]) أيضاً: والظاهر أن خلاف الأَوْلى أعمُّ, فكل مكروه تنزيهاً: خلاف الأَوْلى, ولا عكس, لأن خلاف الأَوْلى قد لا يكون مكروهاً, حيث لا دليل خاص, كترك صلاة الضحى, وبه يظهر أن كون ترك المستحب راجعاً إلى خلاف الأَوْلى: لا يلزم منه أن يكون مكروهاً إلا بنهي خاص. اه

وهكذا يظهر من خلال هذه النصوص أن خلاف الأَوْلى: دون الكراهة التنزيهية إذا لم يَرِد نهيٌ خاص, كما أن الإساءة دون كراهة التحريم, وأَفْحَشَ من كراهة التنزيه([40]). وأما إذا ورد دليل خاص على النهي, كمسألتنا هذه, مسألة أخذ الشعر أو الظفر, وما ورد فيها من النهي في حديث أم سلمة, فيكون خلاف الأولى هو المكروه تنزيهاً, ولا فرق بينهما.

وفي هذا يقول الإمام الفقيه الأصولي أمير ياده شاه (ت972هـ, وقيل 987 ه) في شرحه على التحرير([41]) في أصول الفقه لابن الهمام:

ويطلق المكروه على الحرام, وعلى خلاف الأَوْلى مما لا صيغة نهي فيه  ــ أي في تركه ــ , كترك الضحى, وهذا إذا فُرِّق بين التنزيهية, وخلاف الأَوْلى, وإلا: أي وإن لم يفرق بينهما: نُظِر إلى المآل, فالتنزيهية مرجعها إلى خلاف الأَوْلى, إذ حاصلها ما تركه أَوْلى, والتفرقة مجرد اصطلاح. اه

وعلى هذا, يكون الإشكال واضحاً جداً فقهياً وأصولياً في هذا القول الثاني, في تفرقته بين خلاف الأَوْلى, والكراهة التنزيهية, مع ورود حديث أم سلمة في النهي([42]).

القول الثالث

يسن ترك أخذ الشعر والظفر في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي, ويكره تنزيهاً فعل ذلك, وليس بحرام.  وعليه, يكون الفرق بين هذا القول وسابقه, أن أصحاب هذا القول يقولون بالكراهة التنزيهية لمن فعله, وأما أصحاب القول الثاني فلا يقولون بالكراهة. وبهذا قال الشافعية([43]) والمالكية([44]).  ونقل النووي([45]) عن الإمام مالك ثلاث روايات: الأولى توافق الحنفية: لا يكره, والثانية: يكره, والثالثة: يحرم في التطوع دون الواجب.  كما روي هذا القول الثالث عن جماعة من أصحاب الإمام أحمد([46]), كالقاضي أبي يعلى الفراء, حتى قال المرداوي في الإنصاف([47]) بعد أن ذكر قول الحنابلة بتحريم الأخذ, قال:

والوجه الثاني: يكره, اختارها القاضي, وجماعة, وجزم به في الجامع الصغير, والمُذْهب, ومسبوك الذهب, والبلغة, وتذكرة ابن عبدوس, والمنوَّر, وقدّمه في الهداية, وتبصرة الوعظ لابن الجوزي, والخلاصة, والتلخيص, والمحرَّر, والرعايتين, والحاويين, وإدراك الغاية, وابن رزين, وقال: إنه أظهر.  قلت ــ المرداوي ــ : وهو أَوْلى, وأطلق أحمد الكراهة، اه. وجعل ابن حزم([48]) هذا القول الثالث هو قول أصحاب رسول الله r, وروى عنهم أنهم كانوا إذا اشتروا ضحاياهم: أمسكوا عن شعورهم وأظفارهم إلى يوم النحر([49]).  كما روي هذا القول أيضاً عن ابن سيرين (ت 110 ه), والأوزاعي (ت 157 ه), وأبي ثور (ت 240 ه).

القول الرابع

يحرم أخذ شيء من الشعر أو الظفر في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي, فيجب عدم الأخذ, وإلا أثم فاعله.  وبهذا قال الإمام أحمد([50]), وهو المعتمد في مذهبه, وهو قول بعض أصحاب الشافعي([51]), وقول سعيد بن المسيَّب, وربيعة الرأي بن أبي عبد الرحمن فروخ (ت 136 ه), وقول إسحق بن إبراهيم بن راهُوْيَه (ت 238 ه), وداود الظاهري (ت 276 ه), وهو القول الأخير للإمام الطحاوي (ت 321 ه) من

خــلاصـة الأقــــوال

الحنفية([52]).   
وهكذا فالأقول في هذه المسألة أربعةٌ على جهة التفصيل, ويمكن إجمالها في قولين, من ناحية أثر مَن أخذ الشعر أو الظفر, فالأقوال الثلاثة الأولى يمكن أن نعتبرها قولاً واحداً, ويكون هو القول الأول, وهو قول الجمهور, وأنه يجوز فعل ذلك بدون إثم, والقول الرابع هو القول الثاني, وأنه يحرم الأخذ, ويأثم فاعل ذلك, وهو قول الحنابلة.

أدلـــة القول الأول

 استدل أصحاب القول الأول على إباحة أخذ الشعر والظفر في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي بما يلي: حديث عائشة رضي الله عنها, وقد ورد بروايات, وألفاظ متعددة, أسوقها فيما يلي, ثم أعقبها بوجه الدلالة منها:
1ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: فتَلْتُ قلائدَ بُدْن النبي r بيديَّ, ثم قلَّدها, وأشعرها([53]), وأهداها, فما حَرُم عليه شيءٌ كان أُحِلَّ له([54]).

2ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله r يُهدي من المدينة, فأفتل قلائدَ هديه, ثم لا يجتنب شيئاً مما يجتنبه المُحْرِم([55]).

3ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: فتلتُ قلائدَ هدي النبي r, ثم أشعـرها, وقـلَّدهـا ـ أو قــلَّدتُها ـ, ثــم بَعَثَ بها إلى البيت, وأقام بالمدينة, فما حَرُم عليه شيءٌ كان له حِلّ([56]).

4ـ عن عائشة رضي الله عنها: أنا فتلتُ قلائدَ هدي رسول الله r بيديَّ, ثم قلَّدها رسول الله r بيديه, ثم بَعَثَ بها مع أبي, فلم يَحْرُم على رسول الله r شيءٌ أحلَّه الله له حتى نُحِرَ الهدي([57]).

5ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنتُ أفتل القلائد للنبي r, فيقلِّد الغنم, ويقيم في أهله حلالاً ([58]).

6ـ وفي رواية([59]):...فيبعث بها, ثم يمكث حلالاً.

ووجه الدلالة من حديث عائشة رضي الله عنها ظاهر, ففيه صريح الدلالة على إباحة ما قد حَظَره حديث أم سلمة رضي الله عنها الآتي.

فقد أهدى النبي هدياً إلى حرم مكة وهو مقيم بالمدينة, ولم يحرِّم على نفسه شيئاً مما يَحْرُم على المُحْرِم, ولم يجتنب شيئاً من ذلك, ومنه أَخْذ الشعر والظفر, كما أخبرت بهذا زوج النبي r عائشة رضي الله عنها, وهي من أخص الناس بأمور رسول الله r وأعلمهم بها, وهي من هي في فقهها وعلمها.  وقد أوضح الإمام الشافعي رحمه الله وجه الدلالة من الحديث فقال([60]):

البعث بالهدي أكثر من إرادة التضحية, فدلَّ على أنه لا يحرم ذلك. اه, وهكذا فلما أهدى رسول الله r إلى الحرم هدياً, ولم يحرِّم على نفسه شيئاً: كان غيره أولى إذا ضحى في غير الحرم ([61]). اه  وقال الإمام الفقيه المالكي أبو الوليد الباجي([62]) (ت 474 ه):

وقول عائشة رضي الله عنها: (ثم بعث بها مع أبي): تريد أن النبي r فَعَلَ ذلك في سنة تسع, لتبيِّن بذلك عِلْمها بجميع القضية. ويحتمل أن تريد بذلك: أنه من آخر هدي بَعَثَ([63]) به النبي , لأن النبي  حجَّ في العام الذي يلي هذه العام: حجة الوداع, لئلا يظن ظان أن هذا كان في أول الأمر, ثم نُسِخ. اه .  وأما حديث أم سلمة رضي الله عنها الوارد في النهي عن أخذ الشعر والظفر, فقد ذكر أصحاب هذا القول عدة وجوهٍ لترجيح حديث عائشة عليه, وقبل إيرادها أذكر الحديث برواياته وألفاظه, ثم أعقبه بما ذكروه من وجوهٍ لتقديم حديث عائشة على حديث أم سلمة:

1ـ عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي r قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي, فلا يمسَّ من شعره, وبَشَره شيئاً)([64]).

2ـ عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله r: (إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي: فلا يأخذنَّ شعراً, ولا يقلمنَّ ظفراً).

3ـ عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي r قال: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي: فليُمسك عن شعره وأظفاره).

4ـ عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله r: (مَن كان له ذِبحٌ يذبحه, فـإذا أهلَّ هلال ذي الحجة: فلا يأخذنَّ من شعره, ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي).

ومما ذكره الحنفية في تغليب حديث عائشة رضي الله عنها على حديث أم سلمة رضي الله عنها ما يلي:

ـ روي أن الإمام الليث بن سعد (ت 175 ه) حين ذُكر له حديث أم سلمة قال: قد رُوي هذا, والناس على غيره([65]).

ـ كما روى مسلم في صحيحه([66]) عن سعيد بن المسيب, أنه حين سأله سائل عن أخذ الشعر في عشر ذي الحجة, وذكر له حديث أم سلمة في النهي عن ذلك لمن أراد أن يضحي قال له: يا ابن أخي: هذا حديث قد نُسي وتُرك. اه, وكلام سعيد هذا وإن ذكره على وجه استنكار عدم الأخذ به, لكنه كلامٌ يرشح كثيراً بأنه حديثٌ قد نُسي وتُرك, كما قال الليث بن سعد.  وتَرْك العمل بالخبر: يقدح في حُكْمه وإن صحَّ سنده([67]), أو أنه غير ثابت, أو منسوخ([68]).

وذكر الطحاوي من مرجِّحات العمل بحديث عائشة رضي الله عنها على حديث أم سلمة رضي الله عنها: أن مجيء حديث عائشة رضي الله عنها أحسنُ من مجيء حديث أم سلمة رضي الله عنها, لأنه قد جاء متواتراً([69]).  وحديث أم سلمة رضي الله عنها فلم يجئ كذلك, بل قد طُعن في إسناده, فقيل: إنه موقوف([70]) على أم سلمة رضي الله عنها([71]). اه

ومن مرّجحات العمل بحديث عائشة رضي الله عنها: مارواه الإمام مالك عن سعيد بن المسيَّب راوي حديث أم سلمة رضي الله عنها قال: لا بأس بالإطلاء بالنُّوْرة([72]) في عشر ذي الحجة.  فتَرْك سعيدٍ لاستعمال هذا الحديث, وهو راويته: دليلٌ على أنه عنده غير ثابت, أو منسوخ([73]).

كما دعم أصحاب القول الأول استدلالهم بحديث عائشة رضي الله عنها بالقياس كشاهد مقوٍّ, فقالوا: إن مَن دخلت عليه أيام عشر ذي الحجة وهو يريد أن يضحي: لا يمنعه ذلك من الجماع, فلما كان ذلك لا يمنعه من الجماع, وهو أغلظ ما يَحرم بالإحرام: كان أحرى أن لا يمنع مما دون ذلك, وهو أخذ الشعر والظفر([74]).  وعبَّر عن هذا القياس الإمام ابن عبد البر بقوله: وقد أجمع العلماء على أن الجماع مباح في أيام العشر لمن أراد أن يضحي, فما دونه أحرى أن يكون مباحاً([75]).

وأصل الاستدلال بهذا القياس ــ والله أعلم ــ ما رواه النسائي في سننه([76]) أنه ذُكر للإمام التابعي عِكْرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما (ت 104 ه) ذُكر له حديث أم سلمة رضي الله عنها في النهي عن أخذ الشعر والظفر فقال: ألا يعتزل النساء والطيب. اه يريد الاعتراض عليه وردَّه.



أدلة القول الثاني والثالث

استدل أصحاب القول الثاني والثالث على استحباب عدم أخذ الشعر أو الظفر بحديث أم سلمة رضي الله عنها, ولم يحملوا النهي فيه على التحريم, بل على خلاف الأَوْلى عند أصحاب القول الثاني, وعلى الكراهة التنزيهية عند أصحاب القول الثالث, والصارف القوي عن التحريم هو حديث عائشة رضي الله عنها, فهو صريح الدلالة على إباحة ما قد حَظَره حديث أم سلمة, وذلك جمعاً بين الحديثين.
ومما ذكروه من صوارف النهي الوارد في حديث أم سلمة من التحريم إلى الكراهة التنزيهية: ما ذكره العلامة الشَّبْرامَلِّسي الشافعي في حاشيته على نهاية المحتاج([77]) فقال:  إن الصارف في حديث أم سلمة هو كون الحكمة في طلبه r هو مجرد إرادة المغفرة.

ويرى الإمام الخطابي (ت 388 ه) أن من صوارف وجوب ترك أخذ الشعر والظفر في حديث أم سلمة, إلى استحباب ذلك ما قاله: وأجمعوا أنه لا يحرم عليه اللباس والطيب, كما يحرمان على المحرم, فدلَّ ذلك أنه على سبيل الندب والاستحباب, دون الحتم والإيجاب([78]).

ويقول الإمام الفقيه المالكي الحطاب (ت 954 ه): وحديث أم سلمة رضي الله عنها فيه نهي, والنهي إذا لم يقتض التحريم, حُمل على الكراهة([79]).

ولهذا كله كان الإمام الشافعي إمام المذهب رحمه الله يرى أن أمر رسول الله r في حديث أم سلمة رضي الله عنها أَمْر اختيار([80]). ومما ذكروه من الشواهد لحمل حديث أم سلمة على الندب, ما ذكره صاحب إعلاء السنن([81]) العلامة الشيخ ظفر أحمد العثماني (ت 1394 ه), حيث أورد أولاً حديث المَنِيْحة, وهو:  عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي r قال: (أُمرت بيوم الأضحى: عيدٌ جعله الله عزَّ وجل لهذه الأمة).  قال الرجل: أرأيتَ إن لم أجد إلا مَنِيْحَة ابني([82]) ـ (وفي نُسَخٍ: منيحة أنثى) ـ أفأضحي بها؟ قال: (لا, ولكن تأخذ من شعرك, وأظافرك, وتقصُّ شاربك, وتحلق عانتك, فتلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل)([83]).

ثم قال صاحب إعلاء السنن: أجمع العلماء على أن من لم يكن معه ما يضحي به: لا يجب عليه الكف عن شعره وظفره, كما أجمعوا على أن من ليس معه أضحية: لا يجب عليه أن يأخذ من شعره يوم الأضحى, وحملوا حديث المنيحة هذا على الندب, قال: فكذا حديث أم سلمة رضي الله عنها يُحمل على الندب, ومَن ادعى الفرق فعليه البيان([84]).

أدلة القول الرابع  القائل بتحريم أخذ الشعر والظـفر

احتج القائلون بتحريم أخذ الشعر والظفر في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي بحديث أم سلمة رضي الله عنها المتقدم, وهو العمدة في هذه المسألة عندهم, والنهي فيه ظاهر.  وقدَّموه على حديث عائشة رضي الله عنها المبيح للأخذ لعدة وجوه:

1ـ إن حديث عائشة رضي الله عنها عام, وحديث أم سلمة رضي الله عنها خاص, فيجب تقديمه بتنزيل العام على ما لم يتناوله الحديث الخاص.

2ـ وأيضاً فإن عائشة رضي الله عنها تخبر عن فعله r, وأم سلمة رضي الله عنها تخبر عن قوله r, والقول يُقدَّم على الفعل, لاحتمال أن يكون فعله خاصاً به.

3ـ ولأن عائشة رضي الله عنها تعلم ظاهراً ما يباشرها به r من المباشرة, أو ما يفعله r دائماً, كاللباس والطيب, فأما ما يفعله نادراً, كقص الشعر, وقَلْم الأظافر مما لا يفعله في الأيام إلا مرة, فالظاهر أنها لم تُرِدْه بخبرها.  وإن احتمل إرادتَها إياه: فهو احتمالٌ بعيد, وما كان هكذا: فاحتمال تخصيصه قريب, فيكفي فيه أدنى دليل, وخبرُنا دليلٌ قوي, فكان أولى بالتخصيص([85]).

4ـ كما حملوا حديث عائشة رضي الله عنها على أمر خاص, وهو مَن بَعَثَ بهديه, وأقام في أهله: فلا يكون مُحْرماً, ولا يحرم عليه, وقالوا: إن حديث عائشة رضي الله عنها ردٌّ على من يقول بأنه يكون بذلك الإرسال مُحْرماً.  ولهذا عمل الإمام أحمد ـ وهو القائل بالتحريم ـ بالجمع بين الحديثين, هذا في موضعه, وهذا في موضعه, كما أجابه عن ذلك الإمام يحيى بن سعيد القطان (ت 198 ه)..  فقد ذكر الإمام ابن عبد البر([86]) عن الأثرم قال:  قال الإمام أحمد: ذكرتُ لعبد الرحمن بن مهدي (ت 198 ه) حديث عائشة, وحديث أم سلمة: فبقي عبد الرحمن, ولم يأت بجواب. فذكرتُه ليحيى بن سعيد, فقال يحيى: ذاك له وجه, وهذا له وجه, حديث عائشة إذا بعث بالهدي وأقام, وحديث أم سلمة إذا أراد أن يضحي بالنحر. قال أحمد: وهكذا أقول. اه

5ـ وقالوا أيضاً: خبر أم سلمة صريحٌ في النهي, فلا يجوز تعطيله أيضاً, فأم سلمة تخبر عن قوله وشَرْعه لأمته, فيجب امتثاله, وعائشة تخبر عن نفيٍ مستنِد إلى رؤيتها, وهي إنما رأت أنه لا يَصير بذلك مُحْرِماً, يَحرم عليه ما يَحرم على المُحْرِم, ولم تخبر عن قوله: إنه لا يَحْرُم على أحدكم بذلك شيء, وهذا لا يعارض صريح لفظه([87]).

6ـ ومما ذكروه أيضاً: أنه يجب حمل حديث عائشة رضي الله عنها على غير محل النزاع, وذلك لأن النبي r لم يكن ليفعل ما نهى عنه وإن كان مكروهاً, قال الله تعالى إخباراً عن شعيب عليه السلام: ژ ? ? ?  ? ? ? ? ? ژ  (هود: ??).  ولأن أقلَّ أحوال النهي أن يكون مكروهاً, ولم يكن النبي r ليفعله, فينبغي حَمْل ما فعله في حديث عائشة على غير محل النزاع([88]).

7ـ أما الإمام الطحاوي الذي وافق في قوله الأخير قولَ الحنابلة في منع أخذ الشعر والظفر, فقد جمع بين حديث عائشة, وحديث أم سلمة, ووفّق بينهما بذكر رواية لحديث عائشة رضي الله عنها ساقها بسنده, وجعلها عمدته في الجمع, وهي:   لا يجتنب شيئاً مما يجتنبه المحرم من أهله حتى يرجع الناس.  قال: فكان في هذ الحديث القصد الذي كان رسول الله r لا يجتنبه, وهو ما كان يجتنبه من أهله مما يجب على المحرم اجتنابه من أهله في إحرامه, لا ما سواه من حلق شعره, ولا من قص أظفاره, وذلك لا يمنع في حديث أم سلمة رضي الله عنها.  ويكون تصحيح حديث أم سلمة مع حديث عائشة: أن يكون حديث أم سلمة على منع من أراد أن يضحي وله ما يضحي عن حلق شعره, وقص أظفاره في أيام العشر حتى يضحي.

وحديث عائشة على الإطلاق لما سوى قص الأظافر, وحلق الشعر له في تلك الأيام, وأنه فيها بخلاف ما المحرم عليه في إحرامه في تلك الأشياء كلها.  وبهذا تتفق هذه الآثار, ولا يضاد بعضها بعضاً([89]). اه

ومما استدل به القائلون بتحريم الأخذ: ما رواه سعيد بن المسيب أن أصحاب رسول الله r كانوا إذا اشترى أحدهم أضحية ودخل العشر من ذي الحجة: كان يكف عن أخذ شعره وظفره حتى يضحي([90]).

منـــاقشــة أدلـة القول الأول القائل بـالإبــاحـــة

1ـ نوقش استدلال أصحاب القول الأول بأثر سعيد بن المسيب بإباحته الإطلاء بالنُّورة في العشر, بأنه صحَّ عنه النهي عن ذلك.

فقد روى مسلم([91]) عن عمرو بن مسلم بن عمار الليثي قال: كنَّا في الحمَّام قُبَيْل الأضحى, فاطَّلى فيه ناسٌ([92]), فقال بعض أهل الحمَّام: إن سعيد بن المسيب يكره هذا, أو ينهى عنه.  فلقيتُ سعيدَ بن المسيب, فذكرتُ ذلك له, فقال: يا ابن أخي ! هذا حديثٌ قد نُسي وتُرك. حدثتني أمُّ سلمة زوجُ النبي r قالت: قال رسول الله r. بمعنى حديث معاذٍ عن محمد بن عمرو... (من كان له ذِبحٌ يذبحه, فإذا أهلَّ هلال ذي الحجة: فلا يأخذنَّ من شعره, ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي). اه الحديث.

وقال ابن حزم([93]): لا حجة في قول سعيد, وإنما الحجة في الكتاب والسنة, وصحَّ عن سعيد خلاف ذلك, وقد يَتأول سعيد في الإطلاء أنه بخلاف حكم سائر الشعر, وأن النهي إنما هو لشعر الرأس فقط.

وقد يكون المراد بقول سعيد في الإطلاء في العشر: أي عشر المُحَرَّم, لا عشر ذي الحجة, وإلا فمن أين لكم أنه أراد عشر ذي الحجة, واسم العشر يطلق على عشر المُحَرَّم, كما يطلق على عشر ذي الحجة. ولعل سعيداً رأى ذلك لمن لا يريد أن يضحي, فهذا صحيح. اه،وأما غير ابن حزم, فقد اقتصر في مناقشة أثر سعيد بن المسيب بقوله: لعله أفتى بذلك لمن لا يريد أن يضحي, وأنه يُحمل على ذلك([94]).

2ـ نوقش استدلال أصحاب القول الأول بقول عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما في القياس, بما ذكره ابن حزم: هذا قياس فاسد, لأن الصائم فُرض عليه اجتناب النساء بالنص, ولا يلزمه اجتناب الطيب, ولا مسُّ الشعر والظفر, وهذا الذي أراد أن يضحي: مُنع من أخذ الشعر والظفر فقط, فلا يقاس عليهما شيء آخر([95]). اه، وناقشه ابنُ القيم بأنه قياس مصادمٌ للنص([96]).



منـــاقشـة أدلة القول الرابع القائل بـالتـحـريـم

1 ـ نوقش استدلال أصحاب القول الرابع بفعل الصحابة رضي الله عنهم, وتَرْكهم للأخذ في العشر, نوقش بأن هذا يُحمل على الندب, لا على الوجوب, كما حُمِل حديث أم سلمة, وليس في نصهم ما يدل على أنهم كانوا يتركون الأخذ وجوباً([97]).
2ـ نوقش قول الإمام ابن قدامة رحمه الله بأن عائشة رضي الله عنها كانت تعلم ظاهراً ما يباشرها به r إلى آخر كلامه, بما يلي:

إن ترك قص الشعر, وقلم الظفر في العشر مما لا يخفى على الأجانب, فضلاً عن أهل البيت, لما يحدث في شعر الوجه والشارب والأظفار من الطول الظاهر, فلا نسلم أنها لم تُرِدْه بخبرها, أو أن إرادتها إياه احتمال بعيد, وإنما البعيد عدم إرادتها إياه؛ لما قلنا([98]).

3ـ نوقش قول ابن قدامة رحمه الله: (إن حديث عائشة رضي الله عنها عام, وحديث أم سلمة رضي الله عنها خاص, فيجب تقديمه), بما يلي:

إن هذا هو عين النزاع, فإن العامَّ المتَّفق عليه بالقبول, مقدَّم على الخاص المختلَف في قبوله, لا سيما وحديث عائشة متواتر, وحديث أم سلمة من أخبار الآحاد, وقد اختلف الرواة في رفعه ووقفه, وقال الليث: جاء هذ الحديث والناس على خلافه([99]).

4ـ نوقش قول ابن قدامة رحمه الله: (هذا له وجه, وذاك له وجه, حديث عائشة: إذا بعث بالهدي وأقام, وحديث أم سلمة: إذا أراد أن يضحي بالمصر), بما يلي: إن رسول الله r كان يريد التضحية مع بعثه بالهدي, لأنه لم يترك التضحية أصلاً, ومع ذلك لم يجتنب شيئاً, على ما في حديث عائشة, فدلَّ على أن إرادة التضحية لا تحرِّم ذلك([100]). اه, وهذه لفتةٌ مهمة جداً في محل النزاع.

5ـ نوقش كلام ابن حزم رحمه الله في أثر سعيد بن المسيب, وما ذكره من احتمالات, وأنه لا حجة في قوله.. إلى آخر كلامه, وأن القياس باطل, بما يلي:

إن سعيد بن المسيب هو أعرف بمعنى حديث رسول الله r, ولم يكن التابعون ليتركوا شيئاً صحَّ عن رسول الله r عندهم بآرائهم, فثبت أن حديث أم سلمة لم يكن عند راويه على الوجوب, وكذا عند عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما([101]).  وما ذكروه عن سعيد بن المسيب فيما رواه عنه مسلم: أنه كان يكره أو ينهى عن أخذ الشعر..., فيُجاب عن هذا من باب المقابلة, بما أجابوا به هم عما روي عنه من إجازته ذلك, بأنه لا حجة في قوله.  وأيضاً فما رووه عنه من مَنْعِه: معارَضٌ بما روي عنه من الإباحة, فتتساقط الروايتان.

6ـ نوقش قول ابن حزم رحمه الله بأنه يُحمل جواز الإطلاء عند سعيد بن المسيب على شعر الرأس, بما يلي: إن حديث مسلم يردُّ هذا الاحتمال, ففيه: (فلا يمس من شعره وبَشَره), وهو يعمُّ شعر البدن كله, فيَبْعد عن سعيد أن يتأوَّل في الإطلاء: أنه بخلاف حكم سائر الشعر([102]).

7ـ نــوقـش قــول ابن حزم رحمه الله بأن المراد من أثر سعيد: عَشْر المُحرَّم بما يلي:  إن هذا أضعف من نسج العنكبوت, فهل كان أحدٌ يتوقف عن مسّ الشعر في غير عشر ذي الحجة, ومن أين لابن حزم أن يحمله على عَشْر المُحرَّم, أو عَشْر رمضان تحكّماً من غير دليل([103]).

ولذا قال الإمام المُنَاوي في فيض القدير([104]) عند شرحه لحديث أم سلمة رضي الله عنها:   (إذا دخل العشر): أي عشر ذي الحجة, واللام للعهد, كأنه لا عشر إلا هو. اه

8 ـ نوقش قول ابن قدامة رحمه الله بأن عائشة تخبر عن فعله r, وأم سلمة عن قوله r, والقول يقدّم على الفعل, لاحتمال أن يكون فعله خاصاً به بما يلي:

إن مسألة الراجح في تعارض القول والفعل مسألة اجتهادية ظنية طويلة الذيل, قد اختلف فيها علماء أصول الفقه, ولهم كلام طويل في أيهما يقدم, ولكلٍّ وجهةٍ هو موليها, وبخاصة أن حديث عائشة رضي الله عنها متأخر جداً, حيث كان في آخر السنة التاسعة حين حج بالناس أبو بكر الصديق t, في حين أن مشروعية الأضحية كانت في السنة الثانية, وحديث أم سلمة يتصل ويتعلق بالأضحية, مما يجعل الاحتمال كبيراً لتأخر حديث عائشة عن حديث أم سلمة رضي الله عنهما, وهذا يقوِّي الأخذ بما ظاهره التأخر.

9ـ نوقش ما ذكروه من أن حديث أم سلمة رضي الله عنها فيه نهي, وحديث عائشة رضي الله عنها فيه نفي, فلا يعارض صريح النهي بما يلي:

إن حديث عائشة رضي الله عنها يتضمن ردّ النهي الوارد في حديث أم سلمة, وذلك بما تحكيه عن حال النبي r في أواخر عهده r في آخر السنة التاسعة, وهي رضي الله عنها من أعلم الناس بأحوال النبي r.



تـعـقـيب وبـــيـــان

وهكذا بعد هذا العرض الطويل لخلاف الفقهاء في هذه المسألة, وبيان أدلتهم, وبسط وجهات أنظارهم في الجمع بين الأدلة المتعارضة ظاهراً, وما ذُكر حول ذلك من مناقشات وأَخْذٍ وردّ.  بعد هذا يقف الناظر الفاحص المدقِّق أمام ذلك كله, فيرى نفسه أمام مسألة فقهية خلافية, قد قويَ الخلاف فيها, وتجاذبت دلالات الأدلة الأقوالَ فيها, وهي كلها دلالات ظنية وليست بقطعية, لكنه يراها نحو القول القائل بالإباحة تميل بوضوح.  كما يرى أن أكثر أهل العلم, ومعهم فريق كبير من أئمة الحنابلة ممن لم يقل بالقول المعتمد في مذهبهم بالمنع, قد ذهبوا إلى القول بجواز الأخذ جملة, مع تفصيلٍ لطيف في حق من فَعَلَ وأخذ من شعره وظفره, هل يعتبر مخالفاً للأَوْلى, أو أنه مرتكب لمكروه كراهة تنزيه بدون إثم.  وفي مقابل قول هذا الجمع الغفير القائل بعدم التحريم, نجد أن الحنابلة في المعتمد عندهم انفردوا بالقول بالتحريم.  وهكذا فإن هذه الدراسة لن تحسم الخلاف في المسألة, وسيبقى الخلاف قائماً إلى ما شاء الله, وفي الوقت نفسه ليس لأحد أن يحرِّج على مَن أخذ بقول المُبيحين, أو قول القائلين بالكراهة, ولا لأحدٍ أن يحرِّج على مَن أخذ بالمنع والتحريم, والكلُّ متفقون على استحباب عدم الأخذ إما نصاً, أو مراعاةً للخلاف, ولا شك أن هذا هو الأحوط.  وأما التشديد على الناس في هذه المسألة, والتأكيد على تحريم الأخذ, وجَعْل الناس آثمين فاسقين إن أخذوا من شعورهم أو أظفارهم, ففي ذلك إيقاع لهم في حرج شديد, وبخاصة أن جمهور العلماء يقولون بعدم التحريم, وجواز الأخذ بدون إثم.
وأيضاً فإن هذا التشديد, وعدم التوسعة على الناس, كانت ضحيته أن أدى بالكثير إلى ترك التضحية, وتضييع هذه الشعيرة العظيمة من شعائر الإسلام, وتَرْك هذا الخير الكبير, والفضل العميم, وذلك من أجل أن يأخذوا من شعورهم وأظفارهم في عشر ذي الحجة, حيث إن الناس في آخر عشر ذي الحجة يقدم عليهم عيدٌ عظيمٌ من أعياد المسلمين, وهو عيد الأضحى, وغالب الناس إن لم يكن كلهم رجالاً ونساءً يتأهبون للتزين له قبل مجيئه بأيام ــ أي قبيل زمن التضحية ـــ بأخذ شعورهم وأظافرهم, والاعتناء بها بصورٍ مختلفة.

وهكذا دين الله واسع, ورفع الضيق والحرج عن الناس مطلب عظيم, ومقصد مهم كبير من مقاصد الشريعة الإسلامية, والله الموفق.



بعض الفروع والمسائل الفقهية المتعلقة بمسألة حكم أخذ الشعر أو الظفر

الحكـمة من ترك أخذ الشـــــعـــر والظــــفـــر


1ـ بيّن كثير من الفقهاء حكمة نهي النبي r عن أخذ الشعر والظفر, فقالوا:  الحكمة أن يبقى المضحِّي كامل الأجزاء, فيُبقي شعرَه وظفره؛ لتشمل المغفرة والعتق من النار جميــعَ أجـــــزاء المضحي, فإنــــه يُغفــــر له بـــأول قطــرة من دم الأضحية([105]).  وكان اعتمادهم في بيان هذه الحكمة على بعض الأحاديث الواردة في فضل الأضحية, منها:  ماروي عن رسول الله r أنه قال: (إن الله يعتق بكل عضو من الأضحية عضواً من المضحِّي). اه

والشعر والظفر أجزاء من المضحي, فتُترك حتى تدخل في هذا العتق.

لكن في ثبوت هذا الحديث كلام, فقد قال الحافظ ابن حجر([106]) حين أورد الرافعيُّ هذا الحديث في العزيز شرح الوجيز قال:  لم أره هكذا, وقال ابن الصلاح: هذا حديث غير معروف, ولم نجد له سنداً يثبت به. اه

ومـن الأحــاديث التي اعتُمدت في بيان الحكمة, ما تقدم ذكره في أول البحث([107]) في فضل الأضحية عن علي t عن النبي r قال: (يا فاطمة قومي فاشهـدي أضحيتك, فإن لك بـأول قطـرة مغفرة لـكـل ذنب). وهو حديث حسّنه بعضهم, وقال عنه الدمياطي: لا بأس بإسناده.  ووجه الدلالة واضح, حيث إن المضحي يترك أجزاءَه إلى يوم الأضحية؛ لتشملها المغفرة الحاصلة للمضحي.

وذكر بعض الفقهاء حكمة أخرى, لكنهم ضعّفوها, وهي أن المضحي يَترك ذلك ليتشبه بالمُحْرم, فقد قال الإمام النووي([108]) رحمه الله بعد إيرادها:  قال أصحابنا: هذا غلط, لأنه لا يعتزل النساء, ولا يترك الطيب واللباس, وغير ذلك مما يتركه المُحْرم. اه

2ـ الأيام التي يُترك فيها أخذ الشعر والظفر لمن أراد التضحية:  ورد في بعض روايات حديث أم سلمة رضي الله عنها عدة ألفاظ تحدد هذه الأيام, منها:  إذا دخلت العشر, و: إذا رأيتم هلال ذي الحجة, و: إذا أهلَّ هلال ذي الحجة...حتى يضحي.  ويستفاد من هذه الروايات أن الأيام التي يُترك فيها أخذ الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي تبدأ من أول عشر ذي الحجة, أي إذا هلَّ هلال ذي الحجة, وتستمر إلى أن يضحي.  والتعبير بالعشر: باعتبار الليالي, أو من استعمال الكلِّ في الجزء, إذ المراد: تسعٌ فقط لمن أراد التضحية في اليوم الأول من أيام العيد, وأما من ضحى في اليوم الثاني: فالعشر على حقيقته([109]).  وأما من أراد التضحية في اليوم الثالث أو الرابع, فإنه يستمر على ترك أخذ الشعر والظفر حتى يضحي.

3ـ ما يشمله النهي عن أخذ الشعر والظفر:  إن نهي النبي r عن أخذ الشعر والظفر, يشمل شعر الرأس, واللحية, والشارب, والإبط, والعانة,و غير ذلك من شعور البدن([110]), ويشمل أظافر اليد والرِّجْل, وسائر أجزاء البدن, كنحو جلدة لا يضر قطعها, ولا حاجة له فيها. وذلك لعموم قوله r: (من شعره, وظفره), وفي رواية مسلم: (فلا يمسَّ من شعره وبَشَره شيئاً).

ويشمل الأخذ بأي طريقة كانت, سواء كان أخذ الظفر بقَلْمٍ, أو كسر, أو غير ذلك, وسواء كانت إزالة الشعر بحلقٍ, أو تقصيرٍ, أو نتفٍ, أو إحراق, أو أخذه بنُوْرة, أو غير ذلك.

4ـ ما يستثنى ويجوز أخذه من الشعر والظفر والبشرة في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي:  ذكر الإمام الفقيه الشافعي ابن حجر الهيتمي المكي([111]) ما يجوز أخذه, ويستثنى من النهي الوارد عن أخذ الشعر والظفر في حالات خاصة, فقال:  قد يجب الأخذ, لقطع يد سارق, وختان بالغ, وقد يستحب, كختان صبي, وقد يباح, كقطع سن وَجِعَة.

وقد بيَّن رحمه الله أن الدم يجوز أخذه, لأنه لا يعتبر من الأجزاء الظاهرة.

5ـ ما تشمله عبارة: لمــن أراد أن يضحي:  قــال الإمام الزركشي الشافعي (ت 794 ه): ويدخل في مريد الأضحية: مَن أراد أن يهدي شيئاً من النَّعَم إلى البيت الحرام, بل أَوْلى([112]). اه

وأما مَن يُضحَّى عنه من أهل البيت وإن كانت تقع عنه, فهل تشمله عبارة: لمن أراد أن يضحي ؟.  الذي وقفت عليه في هذا: نصٌّ للعلامة العبادي, وللعلامة الشرواني في حاشيتهما على تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي([113]), حيث قالا:  يَخرج ما عدا مريدُها من أهل البيت وإن وقعت عنهم. اه, أي كما لو ضحَّى عن نفسه, وعن والديه الفقيرين مثلاً, فيُستثنى كلٌّ من الوالدين من حكم هذه المسألة, ولا يدخلان في منع الأخذ.

وأما الحنابلة([114]) فقالوا: يَحرم الأخذ على من يضحي, وعلى من يُضحَّى عنه. اه

6ـ لا جزاء ولا فدية على مَن أَخَذَ من شعره أو ظفره إلا التوبة:  نصَّ الحنابلة([115]) القائلون بتحريم الأخذ, أنه لو أخذ الإنسان من شعره أو ظفره, وارتكب هذا المحظور, فإنه لا جزاء عليه ولا فدية, وليس عليه إلا التوبة, سواء فَعَلَ ذلك عمداً, أو سهواً.

7ـ لا فرق في حكم أخذ الشعر أو الظفر بين الرجل والمرأة:  الأصل في الأحكام الشرعية اشتراك الرجل والمرأة فيهما, إلا ما خصَّه الدليل على التفرقة بينهما, وعليه فإن حكم أخذ الشعر والظفر يشمل الرجل والمرأة, وإن كنتُ لم أر مَن نصَّ على ذلك في هذه المسألة, وكأن المسألة لا تحتاج إلى نص وتنبيه, إذ الأصل عدم التفرقة بينهما, والله أعلم.

الخـاتـمــة

خــلاصة أقــوال الفقهاء في المســألــة يمـكـــن جعـلـهــا في قولين:
الأول منهما يقول بالجواز بدون إثم على وجه الإجمال, أما على وجه البيان والتفصيل, فذهب الحنفية إلى إباحة أخذ الشعر والظفر في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي, والإباحة تعني التخيير بين الأخذ والترك, وذهب فريق من الحنفية إلى القول باستحباب عدم الأخذ, لكن مَن فَعَلَ ذلك وأخذ, فقد خالف الأَوْلى, وأما عند المالكية والشافعية, فلا يحرم الأخذ, لكن يكره تنزيهاً كراهةً لا إثم فيها, وبهذا قال فريق من الحنابلة.  وكان عمدتهم حديث عائشة رضي الله عنها, مع التذكير بأنه r لم يترك الأضحية, وحملوا حديث أم سلمة رضي الله عنها على الندب والاستحباب.

وأما القول الثاني: فيقول بتحريم أخذ الشعر والظفر في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي, وبهذا قال الحنابلة في المعتمد عندهم.  وكان حديث أم سلمة رضي الله عنها هو عمدتهم في الاستدلال, وحملوا النهي فيه على التحريم, وقدّموه على حديث عائشة رضي الله عنها.

No comments:

Post a Comment