Monday, October 26, 2015

عيد السويس القومى 24 اكتوبر 1973................تاريخ موثق هدية للشباب.....جزا اول




عيد السويس القومى 24 اكتوبر 1973

سبب ثغرة الدفرسوار:
القرار السياسي الخاطئ وتدخل السياسة في العمل العسكري

حدثت الثغرة كنتيجة مباشرة لأوامر الرئيس السادات بتطوير الهجوم شرقًا نحو المضائق، رغم تحذيرات القادة العسكريين - وخاصة الفريق سعد الدين الشاذلي - بأنه إذا خرجت القوات خارج مظلة الدفاع الجوي المصرية فستصبح هدفًا سهلاً للطيران الإسرائيلي. وبالفعل في صباح يوم 14 أكتوبر عام 1973م تم سحب الفرقتين الرابعة والواحدة والعشرين وتم دفعهما شرقًا نحو المضائق( الخسائر 250 دبابة مصرية ). الجدير بالذكر أن الفرقة الرابعة والفرقة الواحدة والعشرين كانتا موكلاً إليهما تأمين مؤخرة الجيش المصري من ناحية الضفة الغربية لقناة السويس وصد الهجوم عنها إذا ما حدث اختراق للأنساق الأولى، وكانت هناك ثلاث ثغرات تتضمنهم خطة العبور المسماة بـ المآذن العالية، ومن بينها ثغرة الدفرسوار التي حدث عندها الاختراق. بعد فشل تطوير الهجوم رفض الرئيس السادات مطالب رئيس أركان القوات المسلحة المصرية الفريق سعد الدين الشاذلي في إعادة الفرقتين إلى مواقعهما الرئيسية للقيام بمهام التأمين التي تدربوا عليها.
كثيرون من شبابنا ربما لا يعرفون يوميات هذه المدينة الباسلة التي عاشت أجمل وأعذب ستة أيام علي مدي تاريخها بين 23 و28 أكتوبر 1973، ولذلك فإن شهادة الشيخ حافظ سلامة جاءت في وقتها تماما، ليس فقط بسبب ما يجري علي الساحة الفلسطينية والعالمية هذه الأيام، بل أيضا بسبب ذاكرة الوطن التي تتعرض لاعتداءات تزداد مع الزمن، لتنتزع منا أنبل ما نملكه: إرادة المقاومة..
ويبدو أن الشيخ حافظ سلامة كان منتبها لهذه الاعتداءات التي تريد النيل من ذاكرتنا، لذلك فإن شهادته التي تجاوزت 400 صفحة من الحجم الكبير ضمت شهادات عدد من قادة القوات المسلحة الذين خاضوا معركة 1973 مثل الفريق سعد الشاذلي واللواء يوسف عفيفي واللواء محمد الفاتح، ومن الشرطة العقيد أمين الحسيني مفتش مباحث أمن الدولة، إلي جانب شهادات أعضاء منظمة سيناء وأهالي السويس وأطباء المستشفي ورجال الشرطة، بل وقصاصات الصحف والخطابات الرسمية من الشئون الاجتماعية والداخلية والقوات المسلحة، هذا بالطبع الي جانب تصدير كتابه بصورة من وسام الاستحقاق من الطبقة الثالثة الذي منحه أنور السادات له ونوط الامتياز من الطبقة الأولي.



ذاكرة مدينة
هي ملحمة مدينة بكاملها وليست حكاية الشيخ حافظ سلامة وحده إذن..
ذاكرة مدينة رفضت الأسر والاستسلام ومزقت الراية البيضاء..
بحسابات العقل والمنطق وتوازن القوي والعدد وحجم السلاح ونوعيته، بدا أن القرار الوحيد المتاح هو التسليم وإلا طبقا للانذار الذي وجهه قائد القوة الصهيوني للمحافظ تدمير المدينة ونسفها تماما بالطيران والمدفعية والدبابات لكن السويس 'ركبت' دماغها واستبد بها جنون الكرامة، واستعدت للموت قبل أن تستسلم، وقاتلت من شارع الي شارع ومن بيت الي بيت حتي أجبرت جيش الدفاع علي الانسحاب والفرار..
كانت القوات المسلحة قد حققت المعجزة وعبرت قناة السويس ظهر السادس من أكتوبر 1973 بعد ست سنوات من الأسر والهوان والاحتلال.. وخلال السنوات الست كانت مدن القناة ومن بينها السويس بالطبع قد تم تهجيرها لمدن وقري الدلتا والصعيد، فقد كانت تتعرض يوميا ومنذ يونيو 1967 وخلال حرب الاستنزاف للقصف بالمدفعية والطيران..
لم يبق في السويس سوي آلاف قليلة لتسيير الشئون الضرورية، وهؤلاء وفي مقدمتهم شباب جمعية الهداية التي يرأسها الشيخ حافظ سلامة تولوا ما أن اندلعت الحرب العمل بالمستشفيات وتجهيز الشهداء ومساعدة الجرحي..
وبعد أيام قليلة من اندلاع القتال، وتحديدا بعد عشرة أيام، أي في السادس عشر من أكتوبر، كان جيش الدفاع الاسرائيلي قد توصل الي خطته المعروفة باستغلال الثغرة الموجودة في أضيق نقطة بالقناة عند الدفرسوار والنفاذ منها واحتلال السويس وحصار الجيش الثالث ليمكنه التفاوض بعد ذلك والحصول علي أقصي قدر من المكاسب، ولذلك استقلت جولدا مائير رئيسة الوزراء آنذاك طائرة هليوكبتر الي مصانع السويس التي تبعد 5 كيلومترات عن المدينة وتم تصويرها هناك ووزعت وكالات الأنباء الصورة مع خبر احتلال اسرائيل للمدينة!!
وهكذا.. لم نكد نهنأ بالنصر بضعة أيام، حتي استطاع العدو أن ينفذ من الثغرة بين الجيشين الثاني والثالث في عملية قادها السفاح الجنرال شارون لتحويل أنظار العالم عن معجزة العبور وتحطيم خط بارليف..
وأمام زحف العدو الاسرائيلي علي قري الدفرسوار وفايد وفناره، بدأ الفلاحون في ترك قراهم بسبب عنف النيران التي تعرضوا لها، وتجمعوا عند نقطة الشرطة في 'جنيفة'.
واشتدت ضراوة المعارك وبدأت الأنباء غير السارة ترد بعد أن تمكنت قوات العدو من احتلال الجبال المحيطة بجنيفه، وأمام ازدياد عدد الجرحي بالمستشفي تم ترحيل الكثيرون بعد تقديم الاسعافات الأولية، لكن العدو كان لا يتورع عن ضرب سيارات الاسعاف وهي محملة بالجرحي.
حرب أمريكا!!
في نفس الوقت كان السادات قد أعلن أن قواتنا استعدت للحرب ضد اسرائيل، لكن أمريكا انضمت لاسرائيل وقواتنا غير قادرة علي الحرب مع أمريكا التي وجهت سلاح طيرانها لضرب القواعد الصاروخية المصرية.
أما الجنود الذين كانوا بالضفة الغربية في مؤخرة القوات التي عبرت القناة بالضفة الشرقية ومعهم الأسلحة الخفيفة، فقد تدفقوا بدورهم علي المدينة صباح 22 أكتوبر بعد أن طاردهم العدو بالدبابات والطيران..
وبدا كأن النصر قد انقلب وها هي الهزيمة التي سبق لنا أن ذقنا مرارتها تلوح مرة ثانية في الأفق.. بل إن طيران العدو في صباح 23 أكتوبر كان قد سيطر علي المدينة وراح يضرب المناطق المدنية بقنابل زنة ألف رطل..
واجتمع مجلس الأمن وأصدر قرارا بوقف اطلاق النار، وقرارا آخر بالالتزام بالقرار الأول!! بينما أعلن مسئول أمريكي أن الولايات المتحدة توالي الاستمرار في تزويد اسرائيل بالأسلحة الي الحد الذي تشعر اسرائيل نفسها بأنه يرضيها!!
ازداد الجرحي علي نحو مخيف وأعلنت اسرائيل في وسائل الاعلام انها احتلت السويس..
وعلي الرغم من موافقة اسرائيل علي قرار مجلس الأمن بوقف اطلاق النار إلا أنها لم تلتزم بقرار ثان لنفس المجلس وواصلت هجومها علي المدينة..
بعد المغرب وصل الشيخ عبدالله رضا الي السويس مضطربا ليعلن أنه ترك الافطار في مقر قيادة الدفاع الشعبي بالزيتيات ومعه عدد من العسكريين بعد أن سمعوا صوت مجنزرات العدو تقترب..
ودق جرس الهاتف في جامع الشهداء ورفع الشيخ حافظ السماعة. كان محمد عبدالقادر الموظف بشركة السويس لتصنيع البترول الذي قال أن سبع دبابات اسرائيلية مرت أمامه متجهة نحو ميناء الأدبية.. وتوقف قليلا ثم أضاف.. مر (قول) ثاني أمامي الآن من الدبابات وعددها 13 دبابة..
وأجاب الشيخ حافظ متسائلا: لماذا وعندكم رجال من الدفاع الشعبي لم تتعاملوا مع العدو؟
رد محمد عبدالقادر: أخبرنا الدفاع الشعبي أن مجموعات مدرعات العدو تسللت الي المدينة بقصد الفرار فقط..
فأجاب الشيخ حافظ: مادامت هذه القوات تأتي مجموعات وتطلق نيرانها فلاشك أنها جاءت لاحتلال المدينة ويجب مقاومتها..
وتم الاتصال بالمحافظ وقائد الدفاع الشعبي، وكانت اجابتهما أنه لا جدوي للمقاومة بالأسلحة الصغيرة التي يحملها بعض الأفراد، وبدأ عدد من أفراد المقاومة في خلع ملابسهم الخاصة بالدفاع الشعبي واخفاء أسلحتهم..
حدث هذا في شركة السويس لتصنيع البترول وشركة النصر للبترول ومحطة السويس الحرارية ونفذت التعليمات بدقة: اخفاء السلاح، وتسليمه لقيادة الدفاع الشعبي أو مديرية الأمن.. فلا جدوي من المقاومة!!
وهكذا بدا وكأن المدينة قد سقطت بالفعل!
***
لم تنقطع غارات العدو علي السويس لحظةو احدة وازداد الموقف سوءا، ووصلت صناديق بنادق الدفاع الشعبي الي المحافظة، بينما صدرت الأوامر من مكتب المحافظ بنزع اللافتات المعلقة علي مكتب المحافظ وغيره من المسئولين وعلق أحد الموظفين قائلا انه كان يتمني أن تعلق شواهد أموات بدلا من اللافتات المنزوعة..
وفي التاسعة مساء أصدر وزير الحربية قرارا بتعيين العميد عادل اسلام قائدا عسكريا للسويس، وطلب الأخيرمن قائد المحطة العسكرية وقائد قطاع السويس العسكري وضباط الجيش الشعبي لتنسيق خطة الدفاع عن المدينة، واكتشفوا عندئذ أنه لا امكانيات للمقاومة..
وهكذا بدا وكأن المدينة قد سقطت بالفعل..
واذا سألت عن أمين الاتحاد الاشتراكي أو أعضاء المجلس الشعبي بالسويس أو عضو مجلس الشعب فستجدهم جميعا فروا للقاهرة..
أما أهل السويس وجنود القوات المسلحة المتجمعين بالقرب من المسجد فقد وزعوا أنفسهم علي كمائن للمقاومة في أعلي سطح العمارات والنوافذ والمداخل وغيرها لانقاذ ما يمكن إنقاذه..
وفي فجر 24 أكتوبر فوجيء المصلون بالجامع بالمحافظ ومعه مدير الأمن يؤدون معهم الصلاة وبعدها ألقي المحافظ كلمة قصيرة مضمونها بعد كل هذا الذي جري ويعرفه الجميع ان هناك عددا من الدبابات الاسرائيلية تسللت للأدبية.. وهم لا يريدون دخول السويس بل يبحثون عن الأهداف العسكرية فقط وقواتنا تحاصرهم ولا داعي للانزعاج حتي لو دخلوا السويس!!
غير أن الموقف كان يدعو للانزعاج بالفعل ولم يطمئن أحد لكلامه وتوجه أشرف عبدالدايم من منظمة سيناء الفدائية الي شوارع بورسعيد والجيش وسعد زغلول ليغلقها بما يتيسر له من سيارات النقل الكبيرة ليسد مداخل المدينة..
كمائن المقاومة
وتولت 'المخابرات الشعبية' التي تم تشكيلها علي عجل مهمة الاستطلاع لتنبيء أهالي السويس أن العدو يتقدم.. واستقر الرأي علي ضرورة المقاومة.
وخرجت مجموعات من الجنود مع بعض الشباب يحملون معهم السلاح والذخيرة ويرشدونهم الي الطريق.. كتب الشيخ حافظ سلامة:
'وأذكر الأخ العجوز محمود سباق وهو موظف بهيئة التليفونات خرج لكي يرفع من معنويات الجند.. وعلي الرغم من كبر سنه حمل دانة آر.بي.ُي وهو يتقدم الجنود ويقول لهم: تعالوا ورائي فسألته ما الذي تحمله؟ فقال لا أدري! إنما أردت الخروج معهم في سبيل الله، فكلفته بأن يتجه الي كمين محطة سكة حديد السويس وكلفت الأخ/ محارب عبدالحميد محارب بأن يتجه ومن معه الي فندق مصر، والأخ/ السيد محمد علي والأخ/ زكريا ومن معهما الي عمارة روفائيل، وغيرهم بأن يتجهوا الي مناطق مختلفة بحي الأربعين، و هنا التحم العسكريون والمدنيون في جيش واحد،وكان البعض منهم يقول: أنا مستعد للخروج ولكن لا يوجد معي سلاح، وآخر يقول: وأنا مستعد للخروج ومعي سلاح ولكن ذخيرتي نفدت..
ويضيف:
'والتفت الي من بالمسجد لأقول لهم: من كان منكم يعلم عن مكان به ذخيرة أو سلاح، فليحضره الي المسجد، واذا بي بعد لحظات أجد صناديق الذخيرة والأسلحة قد حضرت الي المسجد، ولا أدري من الذي أحضرها'..
وعلي الرغم من كل هذا إلا أن الأسلحة لم تكن مناسبة للمعركة المنتظرة، غير أن السويس 'ركبت دماغها' واستبد بها الجنون وأصرت علي المقاومة!
المخابرات الشعبية
أما 'المخابرات الشعبية' التي كانت تراقب الموقف عن كثب في مبني المحافظة، فأفادت بأن المحافظ خرج في الساعة التاسعة والنصف من مكتبه بغرفة العمليات الحصينة ومعه مدير الأمن وقال للعميد عادل اسلام انه سوف يختفي مع مدير الأمن حتي اذا اقتحم الصهاينة السويس وطلبوا التسليم يقابلهم العميد عادل ويرد بأنه ليس بالرتبة الكبيرة التي تستطيع التصرف!
وهكذا انصرف المحافظ ومعه مدير الأمن ليختبيء في منزل الحاج مصطفي محمد علي!!
وقبل اختفائه أمر مدير مكتبه برفع راية بيضاء علي غرفة عمليات المحافظة، وبدوره سلم مدير المكتب ملاءة بيضاء للحاج سيد نوار الذي ذهب بها ليسلمها الي الجندي المكلف بالحراسة.. المذهل أن الجندي رفض وقال للحاج سيد: ليأتي المحافظ ويرفعها بيديه.. أما أنا فلن أرفعها..
هذا الجندي اسمه محمد أحمد السبع.. ولابد أنه اختفي الآن بين الملايين بعد أن أدي واجبه بتلقائية مدهشة..
لعل القاريء سوف يلاحظ أنني أحاول فقط إعادة رسم المشاهد المختلفة لمقاومة المدينة التي رفضت الأسر، فما فعلته المدينة والناس الطيبون لا يحتاج لصيغ المبالغة والأسلوب الانشائي والتوشية.. لقد فعلوا ما فعلوه علي نحو تلقائي تماما بل وضد موقف المحافظ ومدير الأمن..
***
ننتقل الي جامع الشهداء. في العاشرة صباحا دخل الجامع نقيب شرطة حسن أسامة العصرة صارخا: أنتم جالسون هنا والمدينة قد استسلمت.. لقد رفعت الراية البيضاء علي مديرية الأمن.. وخلع الضباط ملابسهم العسكرية وتخلصوا من أسلحتهم بأمر المحافظ..
حدث هذا قبل اقتحام المدينة.. أما من رفع الراية البيضاء طبقا لما أورده الشيخ حسن سلامة فهو العقيد حسن والرائد مصطفي قائد المرور!!
***
ومع ذلك رفضت المدينة أن تستسلم للصهاينة الذين مهدوا للدخول بالقصف بالطيران والدبابات والصواريخ، وحوصرت السويس وحوصر الجيش الثالث معها. وعلي الفور نصبت الكمائن بالقرب من نقطة شرطة الأربعين وعند مزلقان البراجيلي وبجوار سينما رويال وصيدلية هلال.
اتجهت دبابات العدو من محور المثلث وراحوا يقطعون شوارع المدينة التي بدت مهجورة تماما حتي وصلت الي الكمين الأول فانطلقت الي قنابل الآر.بي.ُي.. واندلع القتال من خلال الكمائن المتوالية وردت الدبابات بتركيز أصاب المنازل ودمرها، وعندما اتجهت الي بور توفيق، أصيبت أول دبابة بلغم بثه جنود الصاعقة فاضطر باقي قول الدبابات للتقهقر..
عادت دبابات العدو ومصفحاته الي شارع بورسعيد قبل أن تحاصر مبني المحافظة، وتتجه المصفحات الي شارع الشهداء..
وهكذا بدا وكأن المدينة التي سكنها جنون المقاومة علي وشك السقوط!
***
وعندما وصل (القول) الثاني من دبابات العدو للكمين الذي بعد قسم الأربعين أطلق ابراهيم سليمان طلقة علي الدبابات الأولي ال (سنتريون) فأصاب البرج وقتل قائد الدبابة، ثم توجه الي 'توباز' مصري كان العدو قد استولي عليه ليخدعوا 'السوايسة' بأنهم من الجيش المصري، فأصاب التوباز واضطر من فيه و من في دبابات القول للفرار مذعورين الي قسم شرطة الأربعين الذي علقت عليه الراية البيضاء.. ودارت معركة داخل قسم الشرطة ذاته وحوصر 23 اسرائيليا داخل القسم.. وفر آخرون الي المنازل والحواري والأزقة فلم ينج منهم أحد فقد كان في كل شبر مقاتل مصري.
المجد للشهداء
في اليوم التالي.. الخميس 25 أكتوبر أحضر النقيب حسن ومعه المقاتل زكريا 12 قنبلة مضادة للدبابات وتم توزيعها علي حاملي أطقم ال آر.بي.ُي في الكمائن الموجودة بالأربعين والمثلث وكفر عبده والزيتيات واستشهد كل من أشرف عبدالدايم 27 سنة وعضو منظمة سيناء العربية وابراهيم محمد سليمان الموظف بشركة السويس لتصنيع البترول وعضو منظمة سيناء الشعبية الذي سبق له أن شارك في عملية عبور وأحضر مع زملائه أول أسير اسرائيلي، وهو أول من ضرب وأصاب أول دبابة اسرائيلية بعد حصار السويس بالقرب من قسم الأربعين، وأحمد هاشم الموظف بشركة تصنيع البترول وانضم الي منظمة سيناء العربية خلفا لشقيقه الشهيد مصطفي أبوهاشم قائد منظمة سيناء العربية، والشهيد فايز حافظ، والشهيد ابراهيم محمد يوسف، والشهيد عبدالعزيز محمود وغيرهم من البسطاء الطيبين.
***
علي الجانب الآخر، وفي العاشرة والنصف صباحا من نفس اليوم وصل العميد عادل اسلام جامع الشهداء لمقابلة الشيخ حافظ سلامة، كان الأخير يوزع الذخائر وعندما دخل وجد العميد عادل جالسا بجوار المكتب ممسكا بسماعة التليفون ومعه عدد من الضباط.
وبادره العميد عادل قائلا أن المحافظ معه علي التليفون ويقول ان الاسرائيليين اتصلوا به وطلبوا منه تسليم المدينة بعد 30 دقيقة والا قاموا بتدميرها ولم يتبق من الموعد إلا عشر دقائق. واستمهل العميد المحافظ دقائق ليستشير زملاءه، فما رأي الشيخ حافظ سلامة، وبالطبع كانت اجابة الشيخ حافظ أنه لا تسليم.
ازيك يا أبوالسعادات!
اتصل المحافظ مرة أخري يستعجله وطلب الحضور ومعه راية بيضاء للذهاب للاستاد لمقابلة القائد الاسرائيلي وابرام اجراءات تسليم المدينة..
انتهت المكالمة وبدأ بعض الحاضرين يفرد قطعة من قماش الأكفان المخصص لتغطية جثث الشهداء (أو ليس لتكفينهم لأن الشهداء لا يغسلون أو يكفنون)، وربطوا قطعة القماش علي يد مكنسة، فاتجه الشيخ حافظ للعميد عادل قائلا:
هل معني هذا انك ستتوجه مع المحافظ ومدير الأمن للاستاد لتسليم المدينة؟ باسم من؟
كان رأي الشيخ حافظ الذي أوضحه للعميد عادل أن الاستسلام ليس معناه تسليم المدينة فقط، بل تسليم 10 آلاف جندي بسلاحهم داخل المدينة، وكذلك كشف وحصار الجيش الثالث في الضفة الشرقية..
وأجابه العميد عادل: ولكن يا شيخ حافظ.. ماذا نفعل إذا جاء الطيران الاسرائيلي فدك المدينة علي من فيها..
رد الشيخ حافظ: إن طيران اسرائيل مضي عليه 6 سنوات وهو يضرب المدينة.. فلتكن 6 سنوات وأيام.
وأمام هذا المنطق بضرورة المقاومة وافق العميد عادل علي الانضمام للمقاومة ورفض تسليم المدينة لاسرائيل..
قبل هذه المناقشة مباشرة، وطبقا لما رواه محمد عبدالقادر الموظف بشركة السويس لتصنيع البترول، كان العدو قد احتل الشركة منذ الصباح وجمع من بها من الموظفين والعمال وطلب القائد الاسرائيلي من سعد الهاكع مدير الشركة بالنيابة أن يبحث له عن المحافظ حتي توصل اليه ودار الحديث التالي:
المحافظ: من المتكلم؟
الهاكع: أنا سعد الهاكع يا افندم.
المحافظ: ازيك يا أبوالسعادات.. وبدأ يسترسل معه في الكلام فقاطعه الهاكع:
يا افندم القائد الاسرائيلي يقف بجواري الآن ويريد أن يتحدث مع سيادتك..
وهنا أخذ القائد الاسرائيلي السماعة من يد الهاكع وقال للمحافظ:
يا زلمة.. احنا جينا لاستلام المدينة وانت المسئول، ونريد أن تسلم المدينة وإلا أمرنا الطيران بتدميرها..
اعطني فرصة لكي اتصل بالقاهرة.
ولا القاهرة ولا تل أبيب.. إما التسليم أوعدم التسليم.
فليكن التسليم علي يد قوات الطواريء الدولية والصليب الأحمر..
وأين الصليب الأحمر وقوات الطواريء؟.. احنا أغلقنا الطرق بالسويس ولا توجد قوات طواريء ولا هلال أحمر ولا صليب أحمر.. إما التسليم أو عدم التسليم..
اعطني فرصة أفكر
اعطيك مهلة عشر دقائق وان تحضر و معك القائد العسكري ومدير الأمن ومعكم رايه بيضاء..
***
دار هذا الحوار بين القائد الصهيوني والمحافظ، وارتاع الأخير وأخذ يبحث عن العميد عادل حتي استطاع الاتصال به تليفونيا، لكن العميد عادل كان قد توصل الي حل اخر مع الشيخ حافظ سلامة:
لا تسليم.. ولن تقع المدينة في الأسر ولن يستسلم الجنود بسلاحهم ولن نعرض الجيش الثالث للحصار..
رفض الانذار
وعلي الفور صعد الشيخ حافظ الي جامع الشهداء وأذاع البيان 'الشعبي' التالي ردا علي الانذار الاسرائيلي:
أيها الرجال الشجعان.. لقد أرسل القائد الاسرائيلي انذارا الي المحافظ لتسليم المدينة وإلا قام الطيران بدكها، وكان ردنا علي الانذار الاسرائيلي وهو يسمع صوتنا: ان شعب السويس وكل من فيها من الرجال الأبطال قد رفضوا الانذار والاستمرار في المقاومة الي آخر رجل يستشهد..
وفي نفس الوقت كان العدو يذيع من مكبر الصوت من مسجد المعهد الديني الذي احتله انذارات لشعب السويس للحضور للأستاد لتسليم المدينة وينادي بأن المحافظ قد سلم المدينة.
وهنا لجأ القائد الاسرائيلي الي حيلة أخري بعد أن تعقد الموقف، و راح يحاول الاتصال مرة ثانية ليعرف من الذي يحكم السويس ومن الذي يملك القر ار، أما المحافظ فكان قد غير مخبأه، فراح الاسرائيلي يبحث في دليل التليفونات حتي دق الجرس في مكتب المقدم أمين الحسيني مفتش مباحث أمن الدولة. وبادره الاسرائيلي قائلا: أين المحافظ؟.. رد المقدم: وماذا تريد منه؟.. فأجاب الاسرائيلي:
أريد منه تسليم المدينة
سأبحث لك عنه..
ويبحث المقدم الحسيني الموقف ويطمئن لموقف المقاومة العنيد علي مدي نصف ساعة حتي عاد الاسرائيلي للاتصال به ليسأله ماذا تم مع المحافظ؟ ورد عليه المقدم:
انت عاوز ايه؟
أنا سوف أدمر المدينة..
يا ابـن الــ.. مستني ايه؟ ان كنت تقدر تدخل المدينة أدخل وحتشوف إيه اللي يجري لكم يا ابــن الــ..
وأغلق الهاتف في وجهه..

وبعد لحظات، وصلت الأنباء بأن رجال الكمين المنصوب في منطقة الهويس نجحوا في تدمير مصفحتين للعدو بمنشية أولاد سلامة، كما تم تدمير مصفحة أخري عند جبلاية السيد هاشم.. والأهم من كل هذا أن العدو بدأ يتراجع عند مداخل المدينة..
***
من جانب آخر، كان المحافظ قد نجح في الاتصال بممدوح سالم رئيس الوزراء ليتحمل القرار معه، وطلب ممدوح سالم مهلة ليستشير السادات، وكان رد السادات ألا يكون التسليم بمعرفة المحافظ لأن الأخير يمثل رئيس الجمهورية، بل بمعرفة القائد العسكري!!
***
ومع ذلك رفضت المدينة الاستسلام وسكنها الجنون: لن نسلم!
***
يورد الشيخ حافظ سلامة في كتابه نص التقارير الرسمية التي تؤكد الوقائع سالفة الذكر مثل تقرير نقيب شرطة حسن أسامة العصرة الذي ترك موقعه في مستشفي السويس العام والتحق بقوات المقاومة، وشهادة محمد سمير عرفات وكيل وزارة الشئون الاجتماعية التي يشير فيها الي أن المحافظ كان قد أصدر قرارا بالتحفظ علي الشيخ حافظ وأن هذا القرار سوف يغضب القوات المسلحة التي تتعاطف بشدة مع الشيخ حافظ، وشهادة محمد عواد حامد قائد مجموعة منظمة سيناء الفدائية ويشرح من خلالها التحام الجنود بالمدنيين واشتراكهم معا في الكمائن المنصوبة، وتفاصيل حرب الشوارع التي روعت العدو.
***
صمدت السويس وشعبها المجنون بعشق الوطن ورفض الاستسلام حتي استطاع العميد يوسف عفيفي قائد الفرقة 19 بالجيش الثالث شرق القناة ارسال 3 أطقم فهد و5 آر.بي.ُي فكان هذا الامداد احد النقاط الفاصلة في معركة الصمود..
***
لم يكن الصمود هو القتال فقط ولا الذخيرة ولا الشجاعة!! كان الصمود معناه الجرحي بالمستشفيات، والكهرباء المقطوعة بعد أن دمر العدو محطة الكهرباء، والمياه المقطوعة بعد أن ردم العدو الترعة التي تمد السويس بالمياه، ومشكلة الطعام بعد أن دمر العدو مستودعات الدقيق والمخابز..
وبينما كان المحافظ(    محمد بدوى الخولىمحافظ السويس، ضابط سابق بالقوات المسلحة، ترك الخدمة عام 1958.. انتقل من المحافظة إلى حارة شميس مع اقتراب الدبابات المقبلة من الزيتيات إلى المدينة، وظل  مختبئا في منزل ابراهيم عبدالعظيم المقاول يتناول الدجاج والبط والديوك الرومي، كان أهالي السويس الطيبون قد قسموا المدينة الي قطاعات بالتنسيق مع العساكر الموجودين، وتم اعادة تشغيل المخابز بعد أن اكتشف أحد الأهالي بالمصادفة سيارات بها براميل سولار وبنزين في أحد الشوارع، كما تم توزيع علبة واحدة من السردين والبامية والبلوبيف لكل سبعة أفراد في اليوم..
وفي نفس الوقت نجح كمين مدرسة التجارة في صد دبابتين، ودبابة أخري عند ترعة الزراير، ودبابة بجوار بيوت الشباب، ودبابة عند وابور المياه ، كما تسللت مجموعة خلف خطوط العدو بالتعاون مع المخابرات..
وعندما تقدم العدو للهجوم من عدة محاور لاحتلال المدينة فعليا بعد قصفها بالمدفعية والطيران، قوبلت بنيران مكثفة من الكمائن التي كانت قد نصبت في هذه المحاور بالذات وأجبرت قطعه المتقدمة علي الانسحاب..
كما دارت معركة أمام وداخل قسم الشرطة الذي احتله الاسرائيليون وقتل أغلبهم داخله..
***
ملحمة السويس 'المجنونة' برفض الاستسلام استمرت حتي وصول قوات الطواريء الدولية للفصل بين القوات طبقا لقرار مجلس الأمن، بل وتواصلت بعد ذلك..
حكم السوايسة والعساكر مدينتهم واستولوا علي السلطة ورفضوا قرار المحافظ وأعادوا تنظيم المدينة وشكلوا فصائل المقاومة ووزعوا السلاح والطعام والماء واقتسموا كسرات الخبز وعالجوا جرحاهم ودفنوا شهداءهم..
نتذكر نحن المصريين هذه الملحمة المذهلة ملحمة الجنون والكرامة والرفض بعد ثمانية وعشرين عاما، ونهديها لأبطال فلسطين البواسل الذين يخوضون معركة مشابهة علي أرضهم ويسقطون بالمئات، كما نهديها للناس الطيبين في الأطراف والذين يخوضون أيضا معارك ضارية ضد كل قوي الشر وتجار السلاح والسماسرة والوكلاء العموميين!!

No comments:

Post a Comment